أنور الصبّاح … رجل النور، آخر السياسيين المحترمين

كتب جمال فيّاض
رحل أنور الصبّاح، رحل رجل من النادرين في عالم السياسة والسلطة. برحيل أنور الصباح تنطوي صفحة من أواخر صفحات زمن السياسة الجميل في لبنان. يوم كانت السياسة كلمة شرف، وكانت الديمقراطية حرية لا تفسد للودّ قضية. يوم كان التنافس على مقعد في مجلس النواب، إنما هدفه خدمة الناس لا أكثر.
عرفت أنور الصبّاح طفلاً، من أحاديث أقاربي في بيت جدي في النبطيه، وعرفت الأبناء والأحفاد ولعبنا معاً وتخاصمنا مرة، واتّحدنا مرات ضد خصم و”عدو” من أشرار الحي المجاور لحيّ الميدان. أولاداً كانت ساحة بيوت الكبار تجمعنا. وكنت أرى أنور الصباح في “الروحات والجيّات” وأنا أنزل من بيت جدي الى سينما الكابيتول في النبطيه، لأشاهد فيلماً من أفلام شركة الصباح، في صالتهم التي قدموها لجمهور السينما في النبطيه. كان محمد علي وحسين وطلعت أولاد علي حسين، تخصصوا في الإنتاج والتوزيع السينمائي. أما المهندس أنور فهو السياسي الذي كان يخوض المعارك الإنتخابية ليصبح نائباً لمرات ووزيراً لمرات. هو السياسي، الذي ما وضع يوماً أمام إسمه غير لقب المهندس. فلا قال أنا البيك، ولا أنا الزعيم، ولا أنا صاحب المعالي والسعادة … أنا أنورعلي حسين الصباح، إبن النبطيه، ما جمعت مالاً من مناصبي، ولا بنيت قصراً من زعامتي.. كنا نراه، بضحكته الجميلة والقريبة من القلب، أطفالاً وصغاراً، نسمع حكايات بيت علي حسين وطرائف وخفة دمهم المشهورة بين الأسر والعائلات. وكم سمعنا من أهالينا، أن من دخل بيت علي حسين عابساً زعلاناً، لا بد سيخرج باسماً ضاحكاً سعيداً، ناسياً كل همومه. هذا البيت المفتوح لكل الناس، كان يستحق النيابة، والوزارة … والزعامة.
عندما كنّا نعبر الطريق الى سينما الكابيتول، كنا نمرّ أمام البيت الكبيربيت علي حسين، فنرى صادق وعلي وعماد وصبّاح وكل الأحفاد من أبناء جيلنا، كانوا أولاداً بمنتهى الأدب، وكان سلوكهم بمنتهى الإحترام، وكان أحد أبناء الحي القريب شرير الطبع، يأتي إلينا ليتحدى ويتنمّر ويستفزّ، فكنا نتحد معاً لنكسر الشرّ، وأحياناً نتضارب قليلاً، ولما كبرنا صار الشرير صديقاً وصارت الخناقات ذكريات تُضحكنا….. وبدأت الحرب، وتفرّقت البيوت عن البيوت… ما عادت النبطيه كما كانت، ورحل كلّ واحد من كبارها الى جهة من جهات الأرض. وحده نائبها الآدمي أنور الصبّاح، وشريكه النائب عبد اللطيف الزين وثالثهما النائب رفيق شاهين (رحمهم الله جميعاً) … ظلّوا وعيونهم على النبطيه، حتى جاء الإجتياح الإسرائيلي عام 1982، وأنهارت الدولة وكل ما فيها، وأنقذها مؤتمر الطائف الذي كان أنور الصبّاح أحد فرسانه الكبار. وعندما جاء مجلس نواب التعيين ما بعد الطائف، إعتبر أبو صادق أن المهمة أنجزت، فانصرف الى حياته وأسرته، وظلّت عينه على الناس، يقابلهم ويحبهم ويحبوه… ولكن ما انتهت المهمة عند بيت الصبّاح، فقد تولّى إبنه صادق الصبّاح مهمة رعاية الناس من حيث لا يعرف أحد. صادق الرجل الكريم، لا فكّر بنيابة ولا أغوته السياسة، فقدّم وما زال الكثير الكثير للنبطيه، ولم يعرف أحد أن وصية الوالد في حياته وبعد الرحيل، أن النبطية وناسها أمانة لا تتركها …
عاش أنور الصبّاح هادئاً بسيطاً بسلوكه، كبيراً ، نبيلاً بأخلاقه، فأكرمته النبطيه، وأكرمه أولاده حتى آخر يوم من عمره. ويوم الرحيل، شيعّته النبطيه كما الشهداء، فلا خاف المشيّعون من عدوان ولا قصف، رغم طائرات العدوان التي كانت تحلّق في سماء النبطيه، كانت النبطيه كلها في جنازة كبيرها الذي أعطاها كل شيء، وما أخذ ولا طلب منها إلا المحبة والإحترام…
رحل أنور الصبّاح، صديق والدي، رفيق طفولة والدتي، وأخوالي وخالاتي، وما ترك خلفه، إلا الذكرى العطِرة والحلوة والإحترام والمحبة.. فودعته النبطيه بكبارها وصغارها، وودعه لبنان بسياسييه كلهم بدون استثناء، ومن مختلف الإتجاهات، وفي يوم التعازي في بيروت رأيت كلّ لبنان في مكان واحد… حتى يوم رحيله، كان رجل وحدة ولمّ شمل، ولقاءً وطنياً … ترك السياسيون خلافاتهم كلها خارجاً، ودخلوا لقولوا أن هذا الرجل هو رجل جمع لبنان في قلبه وعقله..
رحم الله أنور الصبّاح، رجل النور في السياسة، تماماً كما إبن عمه حسن كامل الصبّاح رجل النور في العلم…