أهكذا نفي صالح علماني قدره؟
دمشق – عامر فؤاد عامر
ما يزال المشهد المؤلم في تعاملنا مع مبدعي ومثقفي المرحلة يُكرر نفسه، وبرحيل معظم هؤلاء يظهر اهتمامنا بلونه الشاحب، ويزول هذا الاهتمام تدريجياً عاماً بعد الآخر، كما يحدث اليوم مع شيخ الروائيين حنا مينة وعدد من الأدباء والشعراء، وكما حدث مع أعلام المسرح كفواز الساجر وغيره أو في الفن التشكيلي كممتاز البحرة وغيره، فلماذا يُكرّس هذا التقليد نفسه فينا؟ ومتى يحين وقتنا لاستدراك أن الثقافة هي الحلّ وهي سرّ قيامتنا؟!
توفي صالح علماني في الثالث من الشهر الجاري، وبعد ممارسة السلطات الإسبانيّة قهراً تلقته أسرته وذويه؛ يتمّ منع تسليم الجثمان وإجراء مراسم الدّفن في مسقط رأسه، مدينة حمص السوريّة، ومن دون أيّة مساندة وبعد معاندة مستمرة من زوجته ناديا تشترط السلطات هناك دفنه مؤقتاً في الأرض الإسبانيّة!
الراحل صالح علماني الفلسطيني جذراً، والحمصي السوري ولادةً، والجسر الأهمّ في ترجمة الأدب الإسباني واللاتيني إلى العربيّة، منه عرفنا “غابريال غارسيا ماركيز” في أميز رواياته مثل: “مائة عام من العزلة”، و”قصة موت معلن”، وكذلك “إيزابيل الليندي” في “ابنة الحظ”، و”بيت الأرواح”، و”انطونيو سكارميتا” في “عرس الشاعر”، و”ماريو باراغاس يوسا” مثل: “حفلة التيس”، و”رسائل إلى روائي شاب”، و”بابلو نيرودا” في “النشيد الشامل”، و”جوزيه ساراماغو” في “انقطاعات الموت”، و”كلّ الأسماء” وغيرهم، في وصيته الأخيرة قبيل انتقاله للسماوات يقول علماني لزوجته: “لا تدفنوني في أرضٍ غريبة دعوا تراب مسقط رأسي يواريني”، ومن يعرف هذا المُترجم الكادح يعرف أن الدموع حفرت طريقها على خدّه لتعلن نذيرها يوم نزوحه من دمشق إلى فالنسيا، فكانت علامة ابتعادٍ كبيرة لم تقربه من عودةٍ أرادها إلى موطنه الذي عشقه حدَّ الثمالة، ومن يعرف الراحل الصالح يدرك أيضاً مفهومه للوطن، وتقديسه للتراب الذي منحه التوهج، وعلّمه الحفاظ على القيمة المولودة من رحم الألم، وفيه يقول محمود درويش: “صالح علماني ثروة وطنيّة لا بدّ من تأميمها”.
من المؤلم ما يتعرض له مثقفوا بلادنا، ومن المؤلم ألا نجد الرعاية التي يستحقها المبدع، وصالح علماني أحد الأمثلة الكثيرة، ففي حياته أمضى تعباً مرّاً في الحصول على لقمة عيشه، وبيته الملك لم يمضِ فيه عشرة أشهر في معضمية الشام، تلقى قذائف الحرب لتجبره قسراً على الرحيل وعائلته باتجاه إسبانيا، واليوم لا نستطيع الحصول على جثمانه! فما قيمة مجلس العزاء القائم في دمشق توديعاً له، ووصية صالح علماني في دفنه في حمص لم تنفّذ بعد! وما قيمة هذا البريستيج المؤلّف من سويعات زمنٍ استعراضيّة وزوجة الفقيد يقض مضجعها الحزن والألم، وهي ممنوعة من تنفيذ الوصيّة! أهكذا يتكرّم المبدعون في بلادنا؟! ألا يوجد من يسمع ويرد الصوت على هذا الأمر المفجع!؟
نال علماني سلسلة تكريماتٍ وأوسمةٍ من عديد البلدان، على الرغم من أن المترجم لا يلقى الاهتمام في حصّة الجوائز والتكريمات، لكن يكفي أن أذكّر بأنه قدّم مائة وثلاثة عشرة مُترجَماً خلال ثلاثين عاماً، وهو رقم قلما ينجز مثيله على صعيدٍ فردي، وعلى مستوى العالم، فتنطبق عليه ثنائيّة ((الأكثر نتاجاً والأكثر تواضعاً))، فهو قلّما يظهر في الضوء وأمام كاميرا الإعلام بل يسعى مبتعداً عن الشهرة وأصدائها، لذلك يمكنني القول بأن صالح علماني هو الأكثر خلوداً، لغزارة إنتاجه، ومقدرته في الانتقاء، وسلامة منتجه المُترجم، الذي يحافظ خلاله على روح النص كما هو من بيئته الأصليّة، وفي هذا يقول صالح علماني عبر أحد لقاءاته القليلة: “أنا أقرأ العمل الذي أختاره للترجمة أكثر من مرّة قبل الشروع بترجمته، وربما هذا هو السرّ في نجاح الترجمة معي، وإذا لم أحبّ الرواية لا يمكنني ترجمتها”، إضافة إلى مشروعه في بيت المترجم في الريف السوري الذي قرر أن يطلقه من قرية “مردك” في مدينة السويداء السوريّة الجنوبيّة، وبحسب رؤيته يجد علماني أن هذا المشروع سيكون نواة أصيلة لانطلاق وولادة مترجمين جدد يحققون للمكتبة العربيّة غناها عبر ترجمة أهمّ الأعمال العالميّة، ناهيك عن عددٍ من الروايات التي قام بترجمتها، ولم تنشر بعد، وسيرة معطّرة بالنضال، والألم، والمقاومة، وحبّ الحياة، وعشق سوريا، وفي النهاية أسأل نفسي هل سنبقى ضمن هذه المنظومة، لا نعرف كيف نتعامل مع مبدعي ومثقفي هذه الأرض! وحتى بعد مماتهم!