بلا ولا أيّ كلام… أسعدونا!
الماجدة وآل المعوش … وبينهم أبو منصف.. عودة إلى زمن البساطة الجميل …

كتب جمال فياض:
هكذا، وبلمسة فنية جميلة، عدنا نصف قرن إلى الوراء، وسمعنا وشاهدنا وفرحنا… وسأحكي لكم الحكاية، من أول الكلام إلى آخره دون زيادة ولا نقصان.
هواية ماجدة الرومي، أن تكتب أفكارها، ثم تُحوّلها بعد تجميلها وضبط موازينها إلى شعر، ثم تضبط هذا الشعر أكثر، فيصبح شعرًا غنائيًا.. تحتفظ به، أو تعطي بعضه لملحن تحب روحه فيلحنه لها.
أما وقد فتحت القصيدة النزارية الشهيرة “عندما ترجع بيروت إلينا بالسلامة” باب الصحبة الفنية بين ألحان الشاطر يحيى الحسن، وصوت الماجدة الرائعة، فقد أُزيلت الحواجز والرسميات، وصار بينهما خط مباشر، وهاتف أحمر، كلما استفزت أحدهما فكرة كلمة شعر، أو فكرة نغمة ولحن، انفتح الخط، ودوت النغمات على الكلمات، وولدت أغنية.
هكذا حصل في أغنية “بعدني بقلبك” التي كتبها إميل فهد، وهكذا حصل في “أنا انغرمت” التي كتبتها ماجدة، وهكذا حصل مجددًا في “بلا ولا أي كلام… شغلونا”.
فتحت ماجدة الخط، وأمسكت بسماعة الهاتف الأحمر، وقالت لملحنها المفضل هذه الأيام: اسمع جيدًا، واستوعب فكرتي، وهات ما عندك…
واشتغلت الأسرة المعوشية كلها على المهمة الصعبة، طبعًا صعبة، فالمطلوب ليس مجرد أغنية، بل فكرة بسيطة جدًا، وجميلة جدًا، لسيدة صعبة جدًا، ودقيقة جدًا…
وبأسرع من المنتظر، ظهر المولود الجميل جدًا وجداً.
على خلطة من النهاوند الممزوج والمتماهي بالكُرد الجميل المركّب على قاعدة من الرست، مع رشّة بسيطة من حجاز يبدو كالملح في الطعام، أطلق يحيى الحسن لنغماته العنان، ومنحنا أغنية ولا أحلى.
دخلنا بلحن يحيى الحسن بتوزيع موسيقي من الموهبة الشابة حسن يحيى المعوش، وقد وضع منذ البداية نصب عينيه وصية الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب، التي اعتمدها دائمًا، أن يمنح الإيقاعات من رق وطبلة ميزة تقدّمهما وحضورهما في أي أغنية وموسيقى، وهو ما كان يميّز ألحان الأخوين رحباني. وكما الكبار المذكورين هنا، يعمل يحيى الحسن على أن يُمهّد لأغنيته ولحنها بمقطوعة أو جملة موسيقية واضحة ولها شخصيتها، هو يقول إنها دخول فيه ميلودي واضحة، وليس مجرد “عجقة” موسيقية لتمهيد الدخول في صلب الموضوع.
دخل الموزّع حسن المعوش بخلطة متناغمة بين القانون والناي، وبعد الكوبليه الأول، وتسليم الكوبليه الثاني، هناك حالة من الجمال الهائل في الكمنجات، التي تدخل في تفاصيل الغناء وترافقه برفق وحنان وبساطة فيها الكثير من الشجن، ويبلغ الشجن أقصاه عندما يطلّ علينا صولو كمان يمرّ سريعًا كالشهب، لكنه يلمع في القلب ويشعّ، فيصيب هدفًا، ويمضي تاركًا للأغنية أن تكمل طريقها، وكأنه تحية من القلب.
اللحن يحيّرنا في أمره، هل هو آتٍ من مدرسة موسيقية ما؟ تكاد تقول من هذا وذاك، لكنك ستصل إلى قناعة و”جواب نهائي”: هذه مدرسة يحيى الحسن… ولماذا تمتاز ألحان يحيى؟ ببساطتها، فلا فزلكة ولا فلسفة ولا اختراع الصعب لاستعراض عضلات الملحن الموسيقية.. هو هكذا، يمسك الكلام بإحساسه، ويحمل عوده ببساطة، ويترك للألحان أن تتراكم وتتنامى وتتلاقى وتتقاطع، ثم يخرج علينا ويقول: هذا ما شعرتُ به.
فيصيب القلب ويمضي، فيتلقّف منه حسن يحيى المعوش هذا النتاج الجميل ويبدأ بتشريحه ببساطة مماثلة، فيعجن روحه فيه، بشرقية وطرب وانسيابية هائلة، ويخرج اللحن من يديه كما التحفة المصنوعة من مشاعر وحنان وجمال.
هذه المدرسة في التوزيع الشرقي الجميل، كان يذهب أغلب المطربين إلى القاهرة، حيث يجدونها لدى الموزع المتفرّد بها محمد مصطفى، وها هي الآن باتت في بيروت عند موزّع شاب موهوب… شرقية، طربية، جميلة وأكثر!
بعد كل هذا الشرح، ماذا أحكي عن صوت وغناء الماجدة الجميلة، عن مسحة الفرح في غنائها؟ هناك نغمة في صوتها، حوّلت الموضوع إلى مجرد غنج ودلع ودلال، فعذاب الحبايب صار محبّبًا وجميلاً، تمامًا كما جاء في بيت الشعر الخالد لإيليا أبو ماضي:
عذّبي ما شئتِ قلبي عذّبي،
فعذاب الحب أسمى مطلبي
هكذا يقول صوتها، وإحساسها، هذا الصوت الذي ما زال ماسيًا نقيًا جميلاً.. فيه صعقة الحب وحشرجة العشق…
تعالوا الآن لنشاهد الكليب، هذا المخرج الجميل الموهوب الأنيق رامي أبو منصف، دخل علينا من مكان لم نتوقعه أبدًا… فهو أخذ السيدة ماجدة الصعبة المراس، وأطلقها كمراهقة جميلة، بل كطير أبيض سعيد ورشيق في بحر من السهول الخضراء، وحولها ماء وضوء وشمس وطيور، وقال لها: كوني صبية ومراهقة واضحكي وافرحي، واتركي الباقي عليّ وعلى كاميراتي… وهكذا كان، فظهر المشهد وكأنه عودة إلى نصف قرن من الزمان، هناك عندما كانت الحياة حلوة وسهلة وبسيطة، وكان الغناء مجرد أحاسيس بسيطة…
يبدو أن الشباب الذين شاركوا في هذه الأغنية قد أعطوها جرعة حياة أكثر حيوية، فالمخرج الشاب رامي، والموزّع الشاب حسن، والمهندس الشاب رالف سليمان الذي عمل بدقة وعناية على الماسترينغ، ومحمد المعوش، الملحن الشاب الذي وضع بصمته الجميلة في المقدمة الموسيقية (وهو سرّ نكشفه رغم محاولة التستّر عليه) كانوا أسرة واحدة سخّرت كل مواهبها لتكون للماجدة مملكة من نجاح يتجدد مع الأيام والأجيال…
“بلا ولا أي كلام”، وباختصار شديد…
هذه الأغنية التي لا نملّ من سماعها، وهذا الكليب الذي لا نشبع من مشاهدته، هدية للذين اشتاقوا للغناء الحقيقي، والعمل الفني الذي صار نادرًا جدًا…
تقول كلمات الأغنية :
بلا ولا ايّ كلام
ولا حتى ايّ سلام …شغلونا
وعشنا معهن ايام
ما كأنها من الايام…
وشبكونا
وبحبهن علّقونا
وببحورون غرّقونا
ومين قال فينا ع حبهن
يا ريتهن ما حبُّونا
بلا ولا ايّ كلام
ولا حتى ايّ سلام
شغلونا
ونحن منكذب لو قلنا
انّو ما حبّيناهن
وصعبة وهنّي مش إِلنا
نقول للقلب عشقناهن ..
وتعبنا كثير تعبنا
لما جينا ننساهن
واشتقنا دبنا متنا
وشي فلّوا عاتبناهن.
⸻