بين الوسوف وآدم ورحمه … ومهرجان التحدّي الكبير !
كتب جمال فيّاض
في العاشرة من مساء بيروت، وعلى مسافة كيلومترات من جبهة كانت في هذا الوقت تغلي بالصواريخ، وعلى مسافة ساعات قليلة من خرق إرهابي لجدار الصوت، نفّذه عدو يحتل أرضنا العربية في فلسطين وجنوب لبنان وفي سورية، ويقتل ويسفك دماء الأطفال بلا رحمة ولا رادع، عاشت بيروت وجمهور من آلاف مؤلّفة ساعات التحدّي الكبير. نعم .. هو التحدّي بين أن تختبيء في الملاجيء بانتظار الموت وخوفاً منه، وبين أن تأتي الى مكان فيه جورج وسوف وآدم ورحمة رياض… فتغنّي وترقص وتفرح، وتعلنها على الملأ ، لا الصاروخ يرهبنا، ولا العدو يفزعنا، ولا أحد غير الله يحمينا…
تعالوا أحكي لكم ما الذي حصل أمس ، وأفرحكم كما كنت فرحاناً مع أكثر من خمسة آلاف لبناني وعربي… في ست الدنيا بيروت !
في البداية أطلّت الفنانة العراقية التي كانت انطلاقتها من بيروت في البرنامج الشهير “ستار أكاديمي” ، إنها رحمة رياض.. الفنانة الشابة التي حققت في السنوات الأخيرة إنطلاقة جميلة، وضعتها على الخط الصحيح للشهرة والنجاح، ورغم أن رحمة لم تكن في “المود” كما يجب وأمام هذا الجمهور الكبير، فقد غنّت بشكل صحيح وسليم، ورغم أنها كانت تبدو وكأنها لم تشرب قهوتها ولا صحصحت تماماً، فقد إستطاعت أن تقدم لنا غناءً جميلاً. ورغم أنها كما بدا واضحاً، قد خفضت طبقة الغناء التي اعتدناها منها، إلا أنها أمتعتنا بغنائها الجميل. ويبقى أن تعرف رحمة وهي ما زالت في البدايات، أن فهم الجمهور وما يريده من غناء في لحظة معينة، هو نصف النجاح، إن لم يكن كل النجاح. واللبيب من الإشارة يفهم!
بعد رحمة، يطلّ آدم … بصراحة، أتابع آدم من زمان، بل منذ البدايات الصعبة، وكنت أعرف أنه يحقق منذ مدة نجاحات كبيرة ومتتالية، وأن أغانيه صارت جزءاً من مشاعر جيل اليوم من الشباب، وكنت أشعر تماماً بحجم الحب الذي يكنّه الشباب اليوم لآدم الصوت والإحساس، لكن ما شاهدته في هذه الليلة كان أكبر بكثير من المفاجأة، وأكبر بكثير من الذي كنت أعرفه، وشعرت بتقصير مهنيّ هائل. فأنا أتابع آدم منذ سنوات، ومعجب بآدم منذ البدايات، وأعرف أنه مخزون من الشجن لم يسبقه إليه أحد، وهو الحالة الفريدة بين جيل اليوم من المطربين، حيث يجمع بين قوة الصوت، والإحساس العالي، وهذا في عالم الغناء نادر حدّ التفرّد بهذه الميزة. (وحده وديع الصافي كان يمكنه في نفس اللحظة أن يكون صوتاً جباراً، وصوتاً أرق من النسمة).
يحفظ الجمهور الكبير، الذي زاد عن الخمسة آلاف شخص أتوا من كل المناطف اللبنانية، ومن كل الدول العربية أغاني آدم عن ظهر قلب. ويؤكّد الجمهور أنه جاء ليسمع آدم ، وليست صدفة أن يكونوا هنا في حفل يحييه جورج وسوف، ورحمة رياض. الجمهور قام بعملية إعلان ولاء غير مباشر، لصوت آدم. فالغناء طوال الوصلة مع المطرب، والتصفيق الذي لم يتوقف، يعني أن آدم هو النجم الشريك في نجاح الحفل، لا النجم المضاف للتنويع.
تعالوا نقرأ آدم الفنان في وقفته على المسرح…
منذ دخل ببذلته السوداء الأنيقة جداً، أعلن آدم أنه صار رقماً في لبنان. من الآن فصاعداً ، أنا مطرب من الدرجة الأولى، وباقي لي خطوة بسيطة لأصبح الشريك الجديد للتربيعة الذهبية الرفيعة. فالإستقبال الرهيب، ليس مجرّد ترحيب مفتعل،ولا الجمهور جاء بدعوات وتركيبات مدروسة، كما قد يفعل بعض الفنانين في حفلاتهم. والتصفيق الترحيبي لدخوله، بدون مؤثرت نارية(وهو أمر نفسي مؤثر في حفلات النجوم) يؤكّد أنه صار نجماً كبيراً. بصوته، بوقفته، بهدوئه، بوسامته، يتحرّك على مسرحه، بتواضع رهيب. فلا غرور ولا تعالي ولا عنتريات في النقلة والحركة، ولا “تدبيل عيون” لسحر الجمهور. بل رزانة ووعي كاملين… في عزّ وذروة الغناء، يسقط العلم اللبناني عن طاولة أمامه على الأرض، فينتبه وينزل فوراً ويلتقطه، ولا يتجاهل الأمر، ويعود ليقبّله لاحقاً.. عين آدم مثل عين الصقر، صاحية تماماً لكل ما يجري حوله.
في الغناء، يعرف متى يرفع طبقته حتى تعلو به اللحظة طرباً، ومتى يخفض الطبقة حتى يذوب ويذيب السامعين حباً وعاطفة وإحساساً وشجنا.. هذا هو بالضبط ذكاء الأداء. لا استعراضات، ولا فزلكات ولا إثبات قوة عضلات الصوت. لكل مقام مقال، ولكل لحظة مقاييسها في الغناء. وفي الغناء، أيضاً وأيضاً، يعرف آدم بالضبط ماذا يريد الجمهور، وأي غناء، وكأنه بينه وبين هؤلاء الشباب رابطاً لاسلكياً، تصله الذبذبات أن هذا ما نريده الآن، وبالفعل ما أن ينطق بالكلمة والنغمة، حتى تهتاج الأصوات وترتفع الأكف تأييداً وإعجاباً.
من الآن يمكن القول أن آدم، وجد لنفسه مكاناً جميلاً للناجحين، وينتظر من يملأه ، باقي على النجم الشاب، أن يملأ رصيده بالمزيد من الأغاني الجميلة، والجمهور يحب الأغاني التي يمكنه أن يحفظها ويغنيها بنفسه لنفسه، وهذه نقطة هامة جداً على أي فنان يريد النجاح أن يعرف هذا المفتاح السري للنجاح.
أطال آدم وصلته، ولم يتعب الجمهور ولا شعر للحظة بالملل … هذا الآدم، فيه كل مواصفات النجم، شكلاً ومضموناً، واختيارات غنائية، وذكاء الحضور .. ومع فرقة مثل فرقة الفنان المايسترو والملحن المرهف محمود العيد (وهو ملحن أغلب أغاني آدم الناجحة)، وهذه المواهب المميزة فيها من العازفين خصوصاً (صولو الكلارينيت البديع من الأردني غسان أبو حلته، وصولو الناي الجميل والملفت لسهيل زيتوني)، يعني أنه بأيدٍ أمينة جداً. وآدم تعب كثيراً حتى وصل الى ما يستحق، و كل ما حققه حتى الآن هو تماماً ما استحقه.
ثم نصل الى اللحظة الجميلة، والموعد مع السلطان.
بصراحة، قلت لنفسي، لقد أكل آدم الجو، وأرهق الجمهور، واستنزف طاقة هذه الآلاف المؤلفة بالتصفيق والغناء والحركة، سيكون صعباً على جورج وسوف بأغانيه الطربية أن يعيد البهجة لجمهور كبير ما زال واقفاً يغني لساعتين متواصلتين. وسيكون صعباً أن تطلب من الحاضرين أكثر من بعض الآهات .. آهات الإعجاب بالسلطنة السحرية لحضور جورج وسوف. لكن هيهات، قلت لنفسي ليست المرّة الأولى التي أرى فيها مثل هذا. وبالفعل، كانت إستراحة بسيطة لتأخذ الفرقة الموسيقية مكانها، وأطلّ السلطان جورج وسوف علينا. وهنا للطرب طعم آخر، للحب طعم آخر، للعشق الهائل لصوت وحضور وشخصية وأغاني وكاراكتير جورج وسوف طعم آخر. تبدأ الفرقة الموسيقية بقيادة القدير والأستاذ المايسترو إيلي العليا، بعزف أولى الأغنيات، فلا ينتظر الجمهور، ويبدأ يدندن اللحن معها، يغني جورج فيسبقه الجمهور … وتبدأ السهرة وكأنها من أولها، والجمهور ما زال في أولها. طبعاً، لست بحاجة لأصف لكم السحر الطاغي الذي سنلاحظه بين “أبو وديع” وجمهوره. تكاد تشعر أنهم إحتضنوه من بعيد. يسلطن، ويغني ويسحر على هواه، فيتنقل بالأغاني بين أغنية وأخرى، ويولّف لجمهوره كوكتيلاً من أجمل المقاطع من أجمل الأغاني، فلا يهدأ الجمهور ولا يرتاح، وتشعر أنه وصل الآن وهو بكل حيويته… بكل جبروت الحضور، وطغيان السيطرة، لم يكن جورج وسوف وحده ومعه فرقته الموسيقية، لقد صار هناك نوع من الإتحاد المتفق عليه أن يكون الجمهور جزءاً من الفرقة الموسيقية، وهو الكورال المكمّل للمشهد والأغنية.
هذه المرّة، وتحت تأثير الهتافات والأكف الملتهبة، لم يترك جورج الكثير للكورال، وفضّل أن يكون هو الصوت الوحيد على المسرح، ولا مانع أن يشارك الجمهور بالغناء. من قلبه بل من قلب قلبه… كان جورج يغني مستمتعاً بالمشهد أمامه، مستمتعاً بهذه الحناجر التي تهتف له بالحب والإعجاب وتحضنه من المسافة البعيدة التي تفصل بينه وبين آخر الجالسين في المكان. جورج وسوف، اليوم أكثر من أي يوم مضى، يستحق لقب سلطان الطرب، وإذا كنا زمان نسميه سلطان الطرب مجازاً، أو تودداً وتحبّباً، فهو اليوم ملك السلطنة، وبالمعنى الحقيقي للكلمة، هو سلطان الطرب … وملك السلطنة!