اخبار الفنثقافة

ترجمان الأشواق … لغة حيّة تكثّف حياتنا عبر سنوات الحرب الإخفاق في التفاصيل يسقط أمام النجاح في النتيجة

كتب عامر فؤاد عامر – دمشق


“هل يستطيع الإنسان السوري تحمّل كلّ ما حصل من أحداث في سوريا؟” قد يكون الجواب نعم للكثيرين، لكنه لا للكثير الآخر!
“ترجمان الأشواق” مسلسل سوري من إنتاج المؤسّسة العامّة للإنتاج الإذاعي والتلفزيوني 2017، إلا أن عرضه على الشاشة جاء في رمضان 2019، وهو عن نصّ فيلم لمحمد عبد العزيز الذي أخرج العمل أيضاً، والإعداد والسيناريو والتأليف لبشار عباس، يحاكي المسلسل واقع سوري خالص عايشناه في فترة الحرب، فبدت القصّة محاكاة أقرب للحقيقة في كثير من مفاصل العمل.
يهرب نجيب من مواجهة فكرة العودة إلى الدّيار، فينساق وراء عواطفه ليبيت ليلةً في الفندق، بعدما وصل إلى باب بيته الذي وُلِدَ وشَبَّ فيه، مما يدلّ على محاولة انقطاع هذا الشخص عن جذوره الأصليّة بقرارٍ ذاتيّ، دفعته إليه المواجهة المرّة مع أجهزة أمنيّة اعتقلته، وحققت معه في ريعان شبابه، وقد كان يساريّ الاتجاه، في الوجه الآخر أصبح لدينا عالمين يخصّا نجيب؛ الأوّل البلد الأجنبي الذي يتفاعل معه بخبرته في الترجمة، والعمل المكتبي، والحبيبة، والثاني منبته، والخلفيّة التي جاء منها، وهنا المساحة التي يسلّط المخرج الضوء عليها، فسبب العودة اختطاف ابنته آنا، وبعد العودة تبدأ الحياة مماحكتها معه، وبين أفراد عائلته من والدته جميلة، لأخته نجوى وزوجها تحسين، وطليقته جيهان، وصديقيه زهير وكمال، وكلّ هذه العودة تبدأ بعد عشرين عاماً مضت على مغادرة الوطن.
استطاع “ترجمان الأشواق” أن يلقي بنا أمام مرآة نشاهد فيها أحداث مكثّفة تكررت في حياتنا عبر ثمان سنوات قضت، لكن الشخصيّات الرئيسة “نجيب، زهير، كمال” عكست حالة جيل عاش وتأمّل بشيء، ثم خاب ظنه، فاتجه أبنائه إلى خياراتٍ عدّة، كلٌّ بحسب ميوله وظروفه، وتعدّ هذه الفكرة مُؤلمة بحدّ ذاتها، فهي توحي بأن لا تشابه في البيت السوري الواحد، على تشابهنا في تفاصيل كثيرة! لكن على الرغم من ذلك فإن الحبكة المطروحة قابلة للتصديق، وهي منعكس لحياة عديد من السوريين، لذلك كان تأثير القصّة واضح لدى المتلقي، فالبعض تعاطف مع خطّ نجيب، والبعض الآخر أحبّ خطّ زهير، وآخرون مالوا لخطّ كمال، بالإضافة لخطوط عديدة مرافقة للحياة الخاصّة بهذا الثالوث الصداقي.
حقق العمل هدفه في المتعة، فكان هناك همّ حاضر في رحلة البحث عن آنا المخطوفة، والامتاع كان مصنوعاً في دراما تدفع بالشخصيّات لالتقاط الأمل مرّات، والخيبة مرّاتٍ أخرى، لكن هناك هدفٌ آخر لهذا الترجمان، ففيه دلالاتٍ واضحة نتبيّنها في ارتباط الإنسان بوطنه، ومهما ابتعد المرء وهاجر سيعود تحت وطأة ظرفٍ ما، كما أن المال والطمع يذهب بالناس دوماً في زمن الحرب لهدم البلاد، وتخريب وجهها الحضاري، وأيضاً تذهب العملة الرديئة بالانتشار لتستقصي العملة الجيدة من السوق، كما أن المعدن الثمين سيبقى على غوصه في الطمي حتى مجيء الزمن الجديد، وغيرها من الدلالات.
جسّد الممثلون أدوارهم بعناية، فالشخصيّة الرئيسة “نجيب – عباس النوري” أجادت إيقاع الحزن والارتباك، وحالة البحث لشخصيّة مُرهَقَة، ومُتعَبَة، وهاربة من ماضٍ مرير، لكن بقي صاحبها عالقاً في إيقاعٍ رتيب معظم حلقات العمل، ولو أنه لوّن قليلاً في هذا الإيقاع لربما كان ذلك عنصراً جاذباً أكثر في متابعتها، أمّا “زهير – غسان مسعود” فكانت محبّبة الحضور بتضحياتها الدّائمة بين مهنة الطبّ ومساعي المصالحة بين الأطراف المتنازعة، لكن جانبها الصوفي منحها رشاقة خاصّة، فكان صاحب الشخصيّة يمنحها تفاعلاً بحسب الوقع المطلوب، على الرغم من نهايتها المُؤسفة، وبالنسبة لشخصيّة “كمال – فايز قزق” جاءت متناغمة مع عاطفيّتها وحماستها تبعاً لمتعة الموقف، وعيش اللحظة بما يرضي غرور الإنسان إلى لحظة الاستفاقة والضمير العالي، والتأنيب بسبب شعور فقدان الزوجة، وخيانتها مع أخرى، وقد لعب صاحب الشخصيّة الدّور بإتقانٍ، وحرفيّة منحتها وضوح وجداني، وتعامل منطقي مع انتقالها من ظرفٍ لآخر.
لا بدّ من الالتفات بعناية إلى شخصيّة الأمّ جميلة، والفنانة القديرة ثناء دبسي، التي منحت توازناً مهمّاً للشخصيّة المؤثرة في عائلتها ورحلة البحث عن حفيدتها، فهي قلب العائلة الحقيقي، والأمّ السوريّة التي تضحي بكلّ شيء لإصلاح الحياة، وعودة المياه لمجاريها، وبمستوى آخر لعبت الفنانات سلمى المصري، شكران مرتجى، رنا ريشة، وغيرهن، دور الأمّ وكلّ منهن بصورةٍ مختلفة، فمعطيات كلّ واحدة تختلف عن الأخرى، مما ساعد على التنوّع والغنى في توصيف كلّ أسرة ومتطلباتها، ومن الشخصيّات اللافتة في العمل الراقصة شاليمار، التي قامت بها نوّار يوسف، وهي شخصيّة صعبة الأداء شكلاً، وبسيطة في المضمون، فأن تؤدي مشاهد كاملة من الرقص الشرقي على “البيست” هو مسألة فيها تحدٍّ، كان لنوّار النجاح فيها، ومن باب آخر اعتمد العمل على الوجوه الشابة، وهذه ميّزة يتقنها المخرج في أعماله السينمائيّة، فالعديد من الشبّان والشابات كان لهم فرصتهم في الظهور بقوّة، ونذكر منهم: كنان حميدان، ريمي سرميني، مروى الأطرش، ولاء العزام، روجينا رحمون…إلخ. وما يلفت الانتباه في الترجمان أيضاً هو أن الناس العابرة في المشاهد تظهر ممثلة بالفطرة، كالمرأة التي تقترب لشراء عطر الياسمين البلدي من العطّار، وغيرها من الأمثلة.
تناسبت لغة الإخراج مع منطق القصّة، فالحرب ترغم الناس على التشتت، وتكثر الرغبات، وتنقضي أولويّات طموح البشر على حساب الحاجات الأساسيّة للمعيشة، فكانت قصّة مدينة تغلغل فيها حبّ أشخاصها ليصبح ألماً في لحظة، فيراها أبنائها أنها تغيرت، لكنه مخاض الحرب، ولا بدّ أن يقذف بنا لامتحاناتٍ قاسيّة، لذلك حتى تكرار الأسلوب هنا لم يضفي مللاً بقدر التنوّع، سيّما وأن الشخصيّات متعدّدة الأبعاد، لكن عنصر الإثارة بقي حاضراً، ويؤخذ عليه التشابه مع الفيلم الأمريكي “Taken” حيث يسعى البطل “Liam Neeson” للبحث عن ابنته المخطوفة، فمرّة يخفق، ومرّة يلتقط أمله، إلى أن يلتقي بها في النهاية، وبالموازنة بين إيقاع الحلقات يمكن الإشارة إلى الإيقاع المشدود في كثير منها، لكن في بعضها ضاع الإيقاع ليتفوق عنصر جمال الصورة السينمائيّة أكثر عليه، ومن بابٍ آخر جاءت المشاهد الإضافيّة التي لها علاقة بخط “الضابط – سعد مينة” مقحماً في عددٍ من المشاهد، مما منح العمل توهاناً في المقولة التي يريد.
أجادت الموسيقى التصويريّة للفنان خالد رزق حضوراً مميّزاً في “ترجمان الأشواق” فأظهرت مزاجاً مهمّاً في المَشاهد، ولم تُغرق المتلقي في الحزن مهما كان المشهد التمثيلي حزيناً، وهذه ميّزة لافتة، بالإضافة إلى منحها حسّاً عاطفيّاً وجدانيّاً اكسبت المتلقي ترجمة إضافيّة لدور الممثل وأدائه.
كان هناك لقطاتٍ مميّزة لمدينة دمشق، خاصّة التي جاءت من الفضاء الخارجي، وكيفيّة عرضها بشكلٍ متناغمٍ مع روي القصّة، وليست بتكرارٍ وافتعال، كما أظهرت المدينة بجماليّاتٍ جديدة، بالإضافة لجرأتها في عرض الأحياء المُدمّرة والبيوت المنهدمة، وبالنسبة لحركة الكاميرا جاءت متعددة وليست بأسلوب واحد، فأحياناً ثابتة تركز على حدثٍ ما، وأخرى متحركة توحي بانفعاليّة ارتبطت بالحدث المطروح، كما كان هناك استعراض في أنواع اللقطات، بأسلوب جميل قدّمه مدير الإضاءة والتصوير عقبة عز الديّن، أمّا عنصر التلوين لنور الدين كردي المُشترك مع الإضاءة، فحمل حالة من الحميميّة تليق بمدينة دمشق على الرغم من استعراضها في زمن الحرب، فلم تحمل النفور بل أضافت اقتراب للعين من المشاهد أكثر.
لم نجد في عنصر الملابس ما هو لافت أو عادي، فقد كان بمستوى الهمّ الذي تُعيشه الشخصيّات، فبدت طبيعيّة لدى المعظم، إلا أن نجيب وكمال، وعلى الرغم من حضورهما الرئيس في العمل، كان تفصيل ملابسهما غير مدروس كفايةً، إذّ ليس من المنطقي ارتباط الشخص بنفس الثياب أيّام وليالي، من دون تبديلها، بالإضافة إلى عدم توضيح سبب ارتباط نجيب باللباس الغربي “الترانجكوت” والذي غالباً ما يوحي للمتلقي بأنه لباس مقترن بالمخابرات البريطانيّة!
تعدّ هذه التجربة التلفزيونيّة الأولى للمخرج محمد عبد العزيز، الذي حمل حسّه السينمائي إلى شاشة التلفزيون، فنجح بالمجمل على الرغم من الإخفاق في تفاصيل بسيطة، يمكن إهمالها عند النظر للنتيجة النهائيّة، ويمكن وصف ترجمان الأشواق بأنه تجربة تظافرت فيها جهود كثيرة، من بينها جهود مخرجين شباب – السّدير مسعود، ميّار النّوري، خالد عثّمان – ضبطوا في وجودهم، وتعاونهم، إيقاعاً اعتمدته اللغة الفنيّة لهذا العمل، فكان ترجمة فنيّة للغة عشق وجب تقديمها لزمنٍ تكون شاهدة فيه على أحداث عصيبة مرّت بها سوريا.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى