حسن غندور عندما انتحل شخصية عبد الوهاب بموافقته
عندما قال عبد الوهاب: “متشكر قوي”
إعداد: محمد كريّم
محمد كريّم إعلامي عمل في الإذاعة اللبنانية خلال الستينيات والسبعينيات الثمانينيات من القرن الماضي
القصة التالية حدثت قبل ثلاثة عقود في أحد استديوات الإذاعة اللبنانية, وبقيت محصورة بين أشخاص لا يتجاوزون عدد أصابع اليد الواحدة, وها إني أذيعها للمرة الأولى:
صيف العام 1972 وخلال الإجتماع الأسبوعي الذي كنا نخطط فيه لفترات البث المباشر, أُخبرنا بأن موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب جاء للاصطياف في لبنان جرياً على عادته في كل عام. على الفور طُرحت فكرة استضافته في فترة خاصة يجرى فيها حوار مفتوح مع المستمعين, أي في لقاء مختلف عن كل اللقاءات التي كانت تجرى معه في السابق. رحّب الجميع بالفكرة بالطبع, وبقي أن يستجيب عبد الوهاب للطلب, فكيف السبيل الى ذلك؟ قلت: نقوم بزيارته في شتورا بارك أوتيل حيث كان ينزل في تلك السنة ونعرض عليه الأمر.
في الطريق الى شتورا كنا نتساءل: ترى هل يوافق عبد الوهاب على أن يطلّ على مستمعيه في لبنان, من خلال إطار جديد وأسلوب جديد ليس في لبنان فحسب بل في العالم العربي, فالمعروف عنه أنه دقيق جداً في إطلالاته الإعلامية, بحيث يريد أن يعرف قبل الموافقة, من الذي سيحاوره وفي أي برنامج ومتى يكون توقيت إذاعة الحلقة, والأهم من ذلك ما هي المحاور التي ستدور حولها المقابلة وما هي الأسئلة, بمعنى آخر, إنه يريد أن يتأكد من أنه سيكون في المكانة اللائقة به. وكان ثمة سؤال يلحّ في بالنا: هل يوافق عبد الوهاب على أن يكون خط التلفون مفتوحاً بينه وبين المستمعين, يسألونه ويجيبهم بشكل مباشر؟ ماذا لو طرح أحدهم سؤالاً غير لائق, أو سؤالاً يتعلق بحياة عبد الوهاب الخاصة, أو غير ذلك من الأمور التي يزعجه طرحها؟ وماذا وماذا.. عشرات التساؤلات كنا نطرحها ونحاول أن نجد لها الحلول…
رحّب عبد الوهاب على الفور بالفكرة, مشيداً بالأسلوب الجديد والرائد الذي تعتمده إذاعة لبنان, وأخبرنا بأنه قد تابع بعض الفترات ولمس التجاوب الذي تلاقيه من جمهور المستمعين, وتنبأ بأن هذا الأسلوب المباشر سيعم قريباً إذاعات العالم العربي. ولم ينس أن يحمّلنا التهنئة لإذاعتنا وإدارتها على هذه الجرأة الإعلامية وما أسماه الإنقلاب الإذاعي. لكنه اعتذر عن النزول الى بيروت وطلب أن يتم التسجيل في شتورا, ولم يكن أمامنا إلا أن نلبي رغبته.
اتفقنا على موعد التسجيل, وكاد الفرح يغمرنا لولا أن التسجيل لن يمكّننا من فتح حوار مباشر بين عبد الوهاب والمستمعين.
في موعد التسجيل كان عبد الوهاب بكامل أناقته ولياقته بالإنتظار. راح يجيب على الأسئلة بعمق وظرف, بصوته الرخيم ونبرته الواثقة الرصينة ولفظه الأنيق, مستطرداً في حديثه ليشمل جميع النواحي الفنية والجمالية والإجتماعية والإقتصادية والقومية.
وعبد الوهاب حين يتحدث يطربك في حديثه كما يطربك في غنائه, بل هو يأسرك في ما يقول, لأنه مثقف وصاحب فكر وآراء ونظريات تثير الإعجاب, أما عندما يكون الحديث عن لبنان الذي أحبه من كل قلبه وبصدق, فعندها يصبح الحديث وكأنه الشعر. بل هو يتغزل بجماله كما يتغزل الحبيب بالمحبوب. حتى عندما يحدثك عن إعجابه بالمأكولات اللبنانية, يجعلك تحنّ الى الطعام على الفور. والحقيقة أن عبد الوهاب تحدث في هذا البرنامج فأجاد, واستفاض فأمتع, وجاء كلامه ساحراً, فيه ذكريات من خالط كبار القوم من أدباء وكتّاب وفنانين وشعراء وعلى رأسهم أميرهم أحمد شوقي, واستفاد من مجالستهم وكانت الحصيلة ثقافة شاملة ومتنوعة وعميقة تثير الإعجاب.
وقبل الموعد المحدد لبدء البث, كنا جميعاً قد أصبحنا داخل الأستديو وعلى أهبة الإستعداد: مذيع ومذيعة الفترة, المخرج, التقنيون, ومساعد المخرج الذي أوكلت إليه مهمة الرد على إتصالات المستمعين وتحويلها الى الاستديو. وأقفلنا الباب من الداخل منعاً للإزعاج وإبعاداً للفضوليين, كي نكون بمنأى عن أي مؤثر قد يعرضنا للإرباك فيفسد متعة هذه الفترة وروعتها.
بدأ البرنامج بالمقدمة الموسيقية والدنيا لا تسعنا من الفرح لهذا الإنجاز الفني الرائع, فليس بالأمر اليسير أن يطل عبد الوهاب على مستمعيه ومحبي فنه في لقاء يستمر ثلاث ساعات, وهو أمر لم يتحقق في أي من الإذاعات من قبل. وأعطيت الإشارة لبدء الفترة فإذا بمقدم البرنامج, لا فض فوه, يتحفنا بمفاجأة لم تكن في البال أو الحسبان, فقد أعلن عن وجود عبد الوهاب داخل الاستديو وبدأ حديثه بقوله: أعزاءنا المستمعين, يسعدنا ويسعدكم أن نستقبل معاً موسيقار الأجيال الأستاذ محمد عبد الوهاب الموجود معنا الآن بالأستديو…
وطار صوابي, فقد كنت أتوقع مفاجآت عديدة, أما هذه فلا. بالطبع لم يكن قد تم التوافق على ذلك في مرحلة التحضير, وما كنت لأوافق أصلاً على مثل هذا الطرح لأنني مؤمن بضرورة إقامة علاقات صادقة مع المستمعين الذين إن فقدت ثقتهم مرة فستفقدها الى الأبد. هذا من حيث المبدأ, أما من حيث الواقع فإنني تصورت ما يمكن أن يطرأ مغبة ذلك من مشكلات مع الإدارة ومع المستمعين, وحتى مع عبد الوهاب نفسه.
وحاولت أن أمسك أعصابي قدر الإمكان, فما حصل قد حصل وعلينا أن نتصرف بأعصاب باردة لنحلّ هذه المشكلة بأقل أضرار ممكنة ومن دون تعقيد, حتى لا يتفاقم الأمر وتحدث الفضيحة, فمن المؤكد أن الصحافة لن ترحمنا, والمتربصون بنا من هنا وهناك كثر, والشامتون أكثر.
بيد أن ما خشيناه حصل, إذ ما لبثت إتصالات المستمعين الهاتفية أن انهالت على الإذاعة وكلهم يطالبون بإلحاح التحدث مع عبد الوهاب شخصياً, وهل أدعى لسعادة المرء من التحدث مع عبقري الغناء والنغم؟ كان البعض يريد أن يطرح أسئلة شخصية وفنية, والبعض الآخر يريد أن يسمعه ما نظم له من شعر أو زجل ترحيباً بمقدمه الى لبنان, ولربما كان البعض قد أعد نفسه ليُسمع الأستاذ بعضاً من فنه الغنائي ليأخذ منه الجواب الشافي, لكن من أين لنا بعبد الوهاب ليجيب عن هذه الأسئلة ويرد على إتصالات المستمعين. إزاء هذا التأزيم, ازداد قلقي وخشيت أن يتصرف المذيع بشكل يزيد في الطين بلة قبل أن نجد حلاً لهذا المأزق. غير أن المذيع كان ولحسن الحظ سريع الخاطر, فما أن توالت الإتصالات الهاتفية التي تبث على الهواء مباشرة حتى أعلن أن الأستاذ عبد الوهاب سيرد على جميع الإتصالات في نهاية الفترة, وبذلك أعطى نفسه متسعاً من الوقت للتفكير في الخروج من هذا المأزق.
خلال فاصل غنائي خرج المذيع الى غرفة المراقبة ليسألني: ماذا تقترح, ما هو الحل برأيك, هل نعتذر من المستمعين ونطلعهم على الحقيقة أم نستمر في اللعبة الى الآخر؟ إزداد عندي الإحساس بالمسؤولية, وبدأ يتضح لدي أكثر فأكثر ما يمكن أن نواجهه جميعاً على الصعيدين الرسمي والشعبي إن لم نجد الحل السريع.
وبينما كنت أفكر عن مخرج لهذا المأزق المحرج, وقع نظري بالصدفة على البرنامج اليومي الـ”Conducteur” الموجود في غرفة المراقبة وقرأت فيه اسم اغنية من ألحان حسن غندور, فلمعت في رأسي للتو فكرة أملت في أن تكون هي المخرج وبها يكون الخلاص. قلت: عليكم بحسن غندور, لا أحد ينقذنا من هذه الورطة غيره.
كان الزميل حسن غندور الموظف في دائرة الموسيقى في الإذاعة, ملحناً مجيداً ووهابياً حتى العظم, يعشق عبد الوهاب عشقاً جنونياً, وكان متأثراً بفنه وبشخصيته على السواء, يقلده مطرباً ويقلده محدثاً بشكل لا يصدق, بحيث لو أغمضت عينيك وسمعته يتحدث لتخيلت عبد الوهاب أمامك بقده وقديده.
ذهب مخرج الفترة الى حسن غندور الذي كان يستمع الى الفترة من جهاز الراديو في مكتبه, وطلب اليه الحضور على جناح السرعة الى الاستديو لأن عبد الوهاب سأل عنه ويريد أن يراه. ترك حسن كل شيء أمامه وأسرع يهرول ملهوفاً. ولما دخل وأجال بصره داخل الأستديو سمع صوت عبد الوهاب لكنه لم يره, أدرك اللعبة على الفور. عندها التفت اليّ وسألني باستغراب: لم استدعيتني؟ قلت: للإنقاذ, قال: لم أفهم. فأطلعته على الموقف الذي تورطنا فيه وقلت له بأن مصداقية الإذاعة ومصداقية عبد الوهاب بين يديه. قال: ما المطلوب مني بالتحديد؟ فشرحت له وللمذيع ما يجول في رأسي… وهكذا وقبل إنتهاء موعد المقابلة بدقائق معدودة, توجه المذيع الى المستمعين قائلاً: أعزائي المستمعين, الحديث مع موسيقار الجيل الأستاذ عبد الوهاب شيّق وأخاذ, وقد أخذنا الوقت معه بحيث أصبح من المتعذر أن يرد على ما طرحتموه من أسئلة خلال إتصالاتكم إذ لم يبق على موعد نشرة الأخبار سوى دقيقتين. لذلك نتوجه الى ضيفنا الكبير ونسأله: أستاذ عبد الوهاب ما الذي تود أن تقوله لجمهورك في لبنان الذي لم تنقطع إتصالاته بالإذاعة طوال فترة هذا اللقاء.
هنا, تنحنح حسن غندور, تماماً كما يفعل عبد الوهاب, وقال مقلداً صوته وبكل هدوء ورصانة:
- أقول للأعزاء المستمعين, متشكر قوي…
وانتهت الفترة وتنفسنا الصعداء وتواعدنا على أن يبقى ما حصل سراً.
فاتني أن أقول بأن حسن غندور رفض المشاركة باللعبة قبل موافقة عبد الوهاب شخصياً, وكان في ذلك على حق, وتم بالفعل الإتصال بالفنان الكبير في شتورا بارك أوتيل, حيث أخبرته بالتفصيل بما حدث وبما ننوي أن نفعله واستأذنته بأن يلعب حسن غندور الدور, فضحك وقال: هات حسن. وعندما كلّمه حسن قال له: “إسمع يا ابو علي.. أنا ما عنديش مانع من عملية الإنقاذ دي على شرط ما حدش يعرف إيه اللي جرى, وثانياً همّ كلمتين اتنين تقولهم وخلاص.. ما تطوّلش يا حسن, أحسن اللعبة تبوظ, ولو باظت ح ارفع عليك قضية إنتحال شخصية”.