رحلة في سهرة مع تشيللو فلايديمير وبيانو إيفلين …

كتب جمال فياض
لبّيت دعوة جميلة من رئيسة المعهد الوطني العالي للموسيقى اللبناني، المايسترو والموسيقية الدكتورة هبة القواس، لحضور حفل موسيقي استثنائي لموسيقى الحجرة يقدمه التشيلّيست الروسي الشاب فلاديمير سلوفاشيفسكي، وهو عازف تشيلّلو شهير ، قدّم عروضه مع قادة أوركسترا بارزين مثل يوري تيميركانوف وتيودور كورينتزيس. وترافقه على البيانو البيانيست إيفلين بيريزوفسكي، عازفة البيانو المشهورة عالميًا، والتي كتبت عنها صحيفة “لوموند” الفرنسية،
“عازفة بيانو ذات ذوق رفيع، وتقنية مبهرة، وقلب لا يُضاهى”.
بحضور من نخبة الهواة “السمّيعة” اللبنانيين، وفي صالة عند مدخل المتحف الوطني في بيروت، وهي الصالة التي تتميّز بالشكل الهندسي الذي يضيف للصوت الخارج من آلأت الموسيقى، هيبة وصدى وجمال … إختضن فلاديمير التشيللو الجميل، والأنيق ، وأخذ نفساً عميقاً، وبدأ منذ أول ملامسة بين قوسه وأوتاره، يبثّ الحنين والدفء… بدا فلاديمير عاشقاً متيّماً، وفجأة وجد حبيبته، فعانقها بشوق عميق يكاد يلامس الروح، وأنطلق يعزف لديمتري شوستاكوفيتش (١٩٠٦-١٩٧٥)، إنها “أداجيو” ، بحنين ودفء وهدوء بل ألم وبحرارة ، وعناق جعل العاشق يغمض عينيه ويحلّق في السماوات ، وكأننا لسنا هنا، ونحن سمعناه وكأننا معه، فوق غيمات عالية، بعيدة … ترتحل بالسامعين نحو أبعد مسافة في الفضاءات… والبيانو، يحاول ألا يزعجنا، بل يهمس بأنامل إيفلين الجميلة الساحرة، كما همس الليل…
ثم يعود ينتقل فلاديميرمن رحلته، ويدخل في عالم العبقري روبرت شومان (١٨١٠-١٨٥٦) فيعود ليسترسل بالخيال الجميل، وما زال يتأبط التشيللو، وكأنه يخاف أن يغادره أو يغدره ويتخللى عنه في لحظة الشوق الكبير… سيقدّم لنا ثلاث مقطوعات فانتازية للتشيلو، ويحلّق فلاديمير بنا ويبدع ويجمّد عيوننا وآذاننا وكل حواسنا، حتى نحسبه أوقف الزمن على سَحبة من قوسِه على وتره … ساحرة هذه الموهبة وهي تتّحد بالآلة، فتبث فيها الحياة، حتى حسبناها لوهلة ، أنها آلة من لحم ودم وروح وحياة وفرح وسعادة، وخيبات وأوجاع وكلمات ونطق وصوت … هل هذا الفتى الجميل فيه كل هذا؟ بصراحة؟ نعم … فيه كل هذا!
ثم، يتابع حبينا فلاديمير، ويسترسل ويحلّق وكأنه على متن طائرة هوائية، لا تحسب للتوازن ولا الجاذبية ولا الهواء أي حساب … هو بساط ريح من موسيقى، فقط.. غير خاضع لقوانين الطبيعة من أي نوع كانت …
من سيرجي رحمانينوف (١٨٧٣-١٩٤٣) وهو أحد أعظم عازفي البيانو في تاريخ الموسيقى… سيقدّم لنا (فوكاليز) وهي مقطوعة كانت مخصصة للغناء، لكن فلاديمير، جعل الغناء لصوت التشيللو، وأقنعنا أنه صوت بشري نابع من روح الآلة… هو تحدّى الآلة أن لا تنطق، وبالفعل نطقت … فكانت فوكاليز من التشيللو وليس من صوت بشري… عبقرية، وحرفية لا يمكن وصفها… تُسمع فقطّ…
ويذهب بنا العزيز فلاديمير، وقد أصبحنا نحن وهو وآلته أصدقاء، وتركنا الرسميات والبروتوكولات، وصرنا ” أصحاب بدون مجاملات” … وها هو يعود بنا الآن الى ديمتري شوستاكوفيتس، ويأخذنا الى “سوناتا” في الحركتين الأولى والثانية… وليت تقنيات الصوت تستطيع أن تصل الى كل الأرض، لما سمع العالم إلا الإحساس والجمال…
هل سأل أحدكم أين الحركة الثالثة من الـ”سوناتا” ؟ لقد قدّم فلاديمير الحركة الثالثة من سوناتا لكن هذه المرّة من سيرجي رحمانينوف…
ونحن في عزّ الإنسجام، وبينما فلايديمر يتعامل مع قوسه وأوتاره بانسجام كبير، وبقسوة مرة، وحنين وحنان مرّات … يأتيني وسواس، فيعكّر إنسجامي، وهو يلحّ بطرح سؤال لم أفهم ما الذي جاء به إلى خاطري … سألت نفسي، هذا الفلاديمير سلوفاشيفسكي، هل أحضر معه تشيللو إحتياطي، في حال إنقطع معه وتر؟ هذا التناغم بينه وبين الآلة، قد يوصله الى حالة غحتضان عنيف، فيكسر أو يقطع، أو يحطّم … لم يتكمل السؤال، إلا ووتر فلايديمر ينقطع، وحسبته لوهلة خيالي، وقد ذهب الى أبعد من مكانه … لكنها حقيقة، لقد انقطع وتره، ووقف معتذراً، متألماً لجرح أصاب قلبه …
بسرعة البرق، تصرّفت سيدة المستحيلات هبه القواس، فأتت بالتشيللو البديل، وتابع فلاديمير روايته الموسيقية، واختتم رحلتنا، الحالمة بكثير من الإعجاب وعاصفة من التصفيق … له، ولهذه الأنامل الساحرة على البيانو، إنها إيفلين بيريزوفسكي التي لم تتركنا لحظة إلا وهي تضع بين نغمات التشيللو سحراً وأنساً وجمال…
ولمن يهمّه المزيد من المعلومات :
فلاديمير سلوفاشيفسكي
عازف تشيلو
وُلد في سانت بطرسبرغ عام ١٩٩١، وتلقى تعليمه المهني في مدرسة ليسيوم معهد سانت بطرسبرغ الحكومي للموسيقى (١٩٩٨-٢٠٠٨) وفي جامعة فيينا للموسيقى والفنون الأدائية، تحت إشراف البروفيسور ستيفان كروبفيتش (٢٠٠٦-٢٠١٠). بين عامي ٢٠١٢ و٢٠١٧، عمل قائدًا موسيقيًا أول لفرقة التشيلو في أوركسترا موسكو السيمفونية الأكاديمية الحكومية بقيادة بافل كوغان. وهو حاليًا عازف منفرد في أوركسترا موسكو وسانت بطرسبرغ الفيلهارمونية، وعازف منفرد وقائد موسيقي في أوركسترا الكرملين في موسكو. ومنذ عام ٢٠١٨، أصبح عازفًا منفردًا وعازفًا في أوركسترا الموسيقى الخالدة. شارك في ورش عمل متقدمة لأساتذة معهد موسكو الحكومي للموسيقى، ناتاليا شاخوفسكايا وناتاليا غوتمان، والبروفيسور فرانس هيلمرسون (من جامعة كولونيا للموسيقى والرقص)، وأرتو نوراس (من أكاديمية سيبيليوس في هلسنكي).
حاز على جوائز في المسابقات الدولية: “أسماء جديدة” في موسكو (الجائزة الأولى)، ومسابقة مؤسسة عائلة غارث (ألمانيا/روسيا، الجائزة الأولى)، ومسابقة ألكسندر غلازونوف الدولية لموسيقى الشباب في باريس (الجائزة الأولى)، ومسابقة “حفلة موسيقية مع أوركسترا” الدولية في فورونيج (الجائزة الأولى، الجائزة الكبرى)، ومسابقة أوساكا الموسيقية الدولية الثامنة (أبان، 2007)، ومسابقة ماريا يودينا الدولية لموسيقى الحجرة (2007). حصل على منح من مؤسسات كونستانتين أوربيليان، وفلاديمير سبيفاكوف، ومستيسلاف روستروبوفيتش.
منذ سن الرابعة عشرة، كان يعزف في القاعة الصغيرة لأوركسترا سانت بطرسبرغ الفيلهارمونية، ويحيي حفلات موسيقية فردية بنظام الاشتراك. في عام ٢٠٠٧، قدّم أول عروضه في القاعة الكبرى لأوركسترا سانت بطرسبرغ الفيلهارمونية مع كونشرتو التشيلو لـ ك. سان سانس. وفي الموسم التالي، قدّم كونشرتو التشيلو الأول لـ د. شوستاكوفيتش مع المجموعة الموقرة لروسيا، الأوركسترا السيمفونية الأكاديمية لأوركسترا سانت بطرسبرغ الفيلهارمونية (بقيادة المدير الفني والقائد الرئيسي – يوري تيميركانوف).
في عام ٢٠١٠، قدّم أول عروضه المنفردة في كونسيرتهاوس فيينا. يعزف في أبرز قاعات الحفلات الموسيقية في موسكو – قاعة تشايكوفسكي للحفلات الموسيقية، ومعهد موسكو الحكومي للموسيقى، ومركز غالينا فيشنفسكايا للغناء الأوبراي، وبيت الموسيقى، وفي قاعات الكرملين بموسكو.
مع المغنية الروسية إيرينا بوغاتشيفا، قام بجولة في إيطاليا. عمل مع قادة فرق موسيقية مثل يوري تيميركانوف، وتيودور كورينتزيس، وبافل كوغان، وفابيو ماسترانجلو، وغيرهم، كما عزف مع العديد منهم منفردًا. ذخيرته الموسيقية غنية، وتشمل كونشرتو التشيلو لـ يوهان هايدن، ولويس بوكيريني، ويوحنا سيباستيان باخ، وكاري سان سانس، وروبرت شومان، وتنويعات على لحن روكوكو لتشايكوفسكي، وكونشرتو التشيلو رقم 1 لدومينيكان شوستاكوفيتش، وكونشرتو الثلاثية لـ ل. فان بيتهوفن، وأوبرا دون كيخوت لروبرت شتراوس، وغيرها الكثير. يتعاون بشكل وثيق مع الملحن أليكس براير، ويعزف على التشيلو للأستاذ الإيطالي لورينزو ستوريوني.
إيفلين بيريزوفسكي
عازفة بيانو
تُوصف بـ”تقنية لو هيج وموند” التي تجمع بين الذوق الرفيع والتناغم المذهل بين عازفي البيانو”.
تبرز إيفلين بيريزوفسكي كواحدة من أكثر فنانات جيلها تميزًا. قدمت كونشيرتوهات مع فرقة طوكيو موزارت بلايرز بقيادة كزافييه روث، وفرقة ميوزيكا فيفا بقيادة ألكسندر رودين، وأوركسترا لاتفيا السيمفونية الوطنية بقيادة أندريس بوغا، وأوركسترا تايلاند السيمفونية والأوركسترا الفيلهارمونية التشيكية بقيادة غودني إميلسون، وأوركسترا هولينكورت سولويست تشامبر بقيادة جوزيبي مونتيسانو، وأوركسترا إنسخيدي السيمفونية بقيادة ياب فان زويدن، وغيرهم. دُعيت للعزف في أماكن بارزة مثل قاعة ويغمور ومركز ساوث بانك (لندن)، وقاعة موسكو الفيلهارمونية، وأوركسترا إلبفيلهارموني (هامبورغ)، ومهرجانات مثل لا روك دانثيرون (فرنسا)، ولي فول جورنييه دو جابون (اليابان)، وفيت دولمبيا (فرنسا)، ومهرجان لورين مازيل (الولايات المتحدة الأمريكية)، بالإضافة إلى كونها ضيفة دائمة في بيانو فولي دو توكيه (فرنسا).
وُلدت إيفلين في موسكو عام ١٩٩١، وبدأت العزف على البيانو في سن الخامسة. درست على يد الأساتذة المشهورين هاميش ميلن (لندن)، وإيليسو فيرسالادزي (إيطاليا)، ورينا شيريشيفسكايا (باريس)، وعملت مؤخرًا مع ماريا جواو بيريس في البرتغال. حازت إيفلين على الجائزة الكبرى في مسابقة جيورجي تشيفرا الدولية (٢٠١٩) في باريس، فرنسا.