رواية “الحيطان” لإبراهيم علي إبراهيم: بين سطوة السلطة وندوب الذاكرة

بقلم الإعلامي اللبناني الدكتور فاروق الجمال
رواية الحيطان للأديب السوداني إبراهيم علي إبراهيم تُعدّ واحدة من الأعمال الأدبية التي تعكس بعمق تعقيدات الحياة السياسية والاجتماعية في السودان. من خلال شخصية البطل راشد عبد الرحيم حمد الله، يسلط الكاتب الضوء على تجربة الاعتقال والتعذيب في *بيوت الأشباح*، وهي مراكز الاحتجاز السرية التي اشتهرت بانتهاكاتها لحقوق الإنسان في ظل الأنظمة الديكتاتورية. الرواية ليست مجرد توثيق لمرحلة سياسية، بل هي أيضًا رحلة نفسية واجتماعية تسبر أغوار الفرد وعلاقاته بالمجتمع، من خلال لغة تمزج بين الواقعية والرمزية، مع بعض اللمسات الساخرة التي تعزز من قوة السرد.
تدور أحداث الرواية بين السودان والولايات المتحدة، حيث ينتقل راشد من قريته في ولاية الجزيرة إلى العاصمة الخرطوم لدراسة الأدب. هناك، يتأثر بالتيارات الفكرية ويصبح ناشطًا سياسيًا ضمن أحد التنظيمات اليسارية المعارضة للنظام العسكري الحاكم. هذه المشاركة السياسية تجعله هدفًا لقمع السلطات، فيُعتقل ويتعرض لتعذيب وحشي داخل بيوت الأشباح، مما يترك أثرًا نفسيًا وجسديًا عميقًا عليه.
بعد الإفراج عنه، يحاول راشد إعادة بناء حياته، لكنه يجد نفسه يعاني من ندوب الماضي، سواء في علاقاته العاطفية أو في نظرته إلى العالم. يسافر إلى الولايات المتحدة، لكن صراعاته الداخلية تستمر، مما يطرح تساؤلات حول الهوية، والانتماء، ومدى إمكانية تجاوز الماضي.
الرواية تقدم توثيقًا أدبيًا لحالة القمع السياسي في السودان، خاصة خلال فترات الحكم العسكري. الكاتب لا يكتفي بسرد المعاناة الجسدية التي تعرض لها راشد، بل يغوص في تأثيراتها النفسية التي تبقى مع الضحية حتى بعد انتهاء المحنة.
تتناول الرواية كيف تؤثر الأيديولوجيات السياسية على الأفراد، خاصة الشباب الذين يجدون أنفسهم في مواجهة أنظمة لا تتسامح مع أي رأي مخالف. تظهر الرواية كيف أن الانتماء إلى تيار فكري قد يكون منبع قوة ولكنه في الوقت ذاته قد يؤدي إلى مصير مأساوي.
عندما يسافر راشد إلى الولايات المتحدة، لا يجد الهروب من الوطن حلاً سحريًا لمشاكله. بل يواجه صراعًا داخليًا حول هويته بين جذوره السودانية وواقعه الجديد في المهجر. هذه الثنائية تجعل الرواية تطرح تساؤلات مهمة عن معنى الانتماء والهوية الوطنية.
الرواية لا تقتصر على الجوانب السياسية فقط، بل تسلط الضوء على علاقات راشد العاطفية. هذه العلاقات لا تسير بشكل طبيعي بسبب أثر الصدمة النفسية، مما يعكس كيف تؤثر التجارب القاسية على حياة الأفراد الشخصية.
يتميز أسلوب إبراهيم علي إبراهيم في الحيطان بالمزج بين الواقعية المباشرة والسخرية اللاذعة، مع بعض اللمحات من الواقعية السحرية. كما يعتمد على تيار الوعي في بعض المقاطع، مما يسمح للقارئ بالدخول إلى أعماق تفكير الشخصية الرئيسية اللغة المستخدمة في الرواية تتراوح بين البساطة والتكثيف الرمزي، مما يجعلها قابلة للقراءة على مستويات متعددة ويضفي على السرد طابعًا حيويًا يجذب القارئ إلى أعماق الأحداث
رواية الحيطان ليست مجرد عمل أدبي، بل هي شهادة على مرحلة مهمة من تاريخ السودان، وتجسيد لمعاناة الأفراد تحت الأنظمة القمعية. من خلال شخصية راشد عبد الرحيم، يقدم الكاتب تأملًا عميقًا حول معنى الحرية، والانتماء، وتأثير الصدمة على الفرد والمجتمع. الرواية تُقرأ على عدة مستويات، سواء باعتبارها وثيقة سياسية، أو دراسة نفسية، أو حتى قصة شخصية تحمل بعدًا إنسانيًا عميقًا.
د. فاروق الجمال