
كتب جمال فياض
قبل عامين كنت في زيارة سياحية فنية إعلامية الى دولة الدومينيكان في أميركا اللاتينية، وكانت الزيارة خلطة من الأسباب. عائلية، لأن لي شقيق وعائلته هناك، وفنية لأن مهرجاناً فنيا عربياً يقام في مدينة “بونتا كانا” السياحية التي تبعد عن العاصمة سانتا دومينغو حوالي مئتي كيلو متر، وصحفية إعلامية لأني ذهبت ومعي الحسّ الصحفي لألتقط اللحظات والحفلات واللقاءات مع كبار نجوم الغناء اللبنانيين والعرب المشاركين في هذا العرس السنوي الذي يقام هناك. وهذا المهرجان الكبير، يأتي إليه جمهور كبير من المغتربين العرب الى الأميركيتين. فالمسافة نسبياً قريبة، والطقس إستوائي جميل، هو أشبه ما يكون بربيع وصيف بعيداً من طقس الشمال البارد في الشهر الثاني من السنة. حفلات المهرجان موزعة على خمسة أيام، في كل ليلة يغني عدد من النجوم، وفي النهار، يغني الجمهور مع بعض المغنين العرب، عند المسبح الكبير. حيث نجتمع على جلسة عائلية عربية كبيرة، من كل البلاد والمناطق والقرى العربية، على الغداء، ويغني الجميع ويرقص ويفرح وكأنهم أسرة واحدة من بيت واحد…
أجواء هذه الأيام الخمسة، لا يمكن وصفها، ولا يمكن القول عنها إلا أنها أيام من العمر. ومن حضرها خرج بعدها بصداقات وانطباعات خيالية، فيها الحب والأخوّة والصحبة الحلوة. وليس غريباً أن تجدهم في باحة الفندق عند المغادرة، يتبادلون أرقام الهاتف والتواصل “لنبقى أصدقاء ونتشرف بزيارتكم” …
طبيعي أن نجد بين هذه الجموع الجميلة والودودة أشخاصاً يتابعونا على الشاشات العربية، وفي البرامج التلفزيونية وعلى مواقع التواصل. والطبيعي أن يقترب هؤلاء منك ليسلموا، ليعبّروا عن محبة وإعجاب، أو لالتقاط بعض الصور المشتركة وبكثير من الحب الواضح. فنحن شعب ودود جداً، مضياف وصديق وفيه كمّ كبير من الطيبة.
وفي مرّة، إقتربت مني مجموعة من السيدات وأزواجهن وأولادهن وكان العدد كبير، تقريباً أسرة كاملة من أب وأم وأبناء وبنات، وأخوة وأخوات وأقارب … مجموعة كلها بهجة وفرح، وبضحكات واسعة، عبّر الجميع لي عن محبتهم، وألتقطنا الصور المشتركة، وطبعاً تبادلنا بعض النكات، خصوصاً أن اللهجة السورية قريبة منّا نحن في لبنان، وبالأخص أنّي متزوّج من حمص، المدينة السورية الشهيرة. بعد تعارف وتبادل القفشات السورية، سألتهم، من أين أنتم في سورية؟ قالوا من الشام(دمشق)…وأين تقيموا حالياً؟ في أميركا .. ومتى زرتم دمشق لآخر مرة؟ تبيّن في الإجابة بعض التردّد … نحن غادرنا منذ حوالي 30 سنة، ولم نعد !!
ماذا؟ غادرتم ولم تعودوا؟ ولماذا هذه القسوة؟ هل يعقل لإنسان ألا يزور بلده لثلاثين سنة متتالية؟ غادرتم شباباً وأولاداً، ولم تعودوا؟ ما أٌقساكم …
فتجيب إحدى السيدات، نحن لنا ظروف خاصة، فتقاطعها واحدة من المجموعة، فتقول “أنا أسافر باستمرار، كل كم سنه أزور الشام وأقضي شهراً في الصيف مع أصدقائي وصديقاتي القدامى وأعود” ..
فأثني على كلامها، وأقول لها ، برافو عليكِ، أنتِ الوحيدة التي تستحق أن تكون سورية أصيلة، علميهم …
ثم ألتفت للسيدة “ذات الظروف الخاصة” وأقول لها، وحضرتك؟ ما هي الظروف الخاصة؟ معارضة حضرتك للنظام؟ لا يبدو أنك ناشطة سياسية.. فتجيب، كلا.. نحن “يهود” … وغادرنا الى أميركا ولم نعد من وقتها، لكن هي ، (تشيرالى الزائرة الدائمة لدمشق) تسافر كل فترة بتشتاق للشام وما فيها ما تروح تزورها.
يهود؟ ولماذا غادرتم؟ هل أجبرتكم الدولة على المغادرة؟ فأجابت بصوت منخفض قليلاً، كلاأبداً، كنا نعيش أحلى عيشة، وبين أهل وجيران وأصحاب وما حدا كان يعاملنا إلا كسوريين… فأقول: إذا لماذا هاجرتم؟ تجيب طلبوا منا المغادرة، جاء من يقول لنا عليكم بيع كل ممتلكاتكم وترك البلد، بصراحة كانت كتير صعبه علينا، بس أضطرينا نغادر … ومن يومها ما رجعنا، ولا راحت من بالنا ، بس شو بدنا نعمل؟ هيك صار .. فالحّ بالسؤال، ومن الذي طلب؟ مين “طلبوا منا” ؟ فتصمت قليلاً، بابتسامة خفيفة، فأفهم أنها المنظمات اليهودية … ثم تضيف، بس والله بعدنا بقلبنا وعقلنا وروحنا بالشام، مين بينشى الشام وجمالها وحواريها وأهلها؟ … وهي تتكلّم تنسى كل شيء، ولا تنتبه إلا إلى أنها سيدة سورية من قلب الشام …
فأردفت قائلاً، عموماً كلنا بشر، والإنسان بما يكنّ في قلبه … ولا يوم كان التعامل بين البشر على أساس الدين، التعامل على أساس المعاملة، ونحن كعرب، نميّز دائماً بين اليهود، والصهاينة … وأظنكم تفهموا ماذا أقصد … جمعكم الله بالشام عن جديد . فتصرخ تلك السيدة من بعيد، “أنا ما دخلني، أنا عم روح وأرجع وعايشه حياتي عاديه..”. ونضحك، ونتفرّق بمحبة وودّ واضح.
أكتب هذه الحكاية، لأني سمعت منذ أيام، أن بعض يهود سورية قد يعودوا الى سورية، وطنهم الأم … وما من عاقل يمكن أن يرفض عودتهم، فهي بلدهم ووطنهم، وطالما أرادوه وطناً دائماً ، فليكن …