اخبار الفنكتب جمال فيَاض

في حفل “من وحي النغم” إبهار “الكونسرڤاتوار”لا ينتهي

عندما يعزف المايسترو مع فرقته للموسيقى"الشرق-عربية"

Screenshot
Screenshot
Screenshot

كتب جمال فياض

بدعوة لطيفة من رئيسة المعهد الوطني العالي للموسيقى – الكونسرفتوار، المؤلفة الموسيقية هبة القوّاس، والمايسترو القدير الفنان أندريه الحاج، ذهبت طائعًا مختارًا، وبكل شوق ولهفة، لحضور
الأمسية الموسيقية المميزة المسمّاة “من وحي النغم”، مع
الأوركسترا الوطنية اللبنانية
لموسيقى الشرق – عربية،
بقيادة المايسترو أندريه الحاج، في قاعة الكنيسة الأرمنية الإنجيلية الأولى في بيروت.
أولًا، كان الانضباط أساسًا في الموعد المحدد، وهو أمر دائم في جميع حفلات المعهد الموسيقية. وهذا يعني لي الكثير كمتابع ومهتم بالحفلات الموسيقية. يعني أنهم احترموني كجمهور، ولم يستهتروا بحضوري. ويعني أن الفرقة كلها، وفريق العمل، يعملون كخلية منضبطة، كما انضباط العسكر في العروض والحروب. ويعني أن القيادة الأساس شدّدت واهتمّت وأكّدت على كل هذا الجمع من كبار الموسيقيين، أن الموعد مقدّس، ولا تهاون في الوعود ولا في المواعيد. الدكتورة هبة القوّاس قائدة صارمة وفنانة حازمة… وهذه أولًا نقطة ذهبية مضافة لكل جهودها. لم تحضر الأستاذة لأسباب قاهرة، لكن الشاعرة القديرة ماجدة داغر نابت عنها، وألقت كلمتها الترحيبية بكل أناقة وثقافة ورزانة، وحلاوة الملافظ والحضور…
تعالوا نستمع معًا لهذه الموسيقى التي أتيناها بالمئات، نحن جمهور الموسيقى “الشرق – عربية”… نعم، شرقية… لكن عربية!
لنا موسيقانا العربية، وليتبعنا من يريد من هذا الشرق…
افتتاحية بتحية، ثم معزوفة “ميس الريم” الشهيرة للكبير زياد الرحباني. ورغم كل حنكة زياد في توزيع أعماله الموسيقية، وهو الذي لا يترك مجالًا لأي إضافة أو توزيع، فقد رشرش المايسترو أندريه الحاج لمساته الموسيقية، وأضاف بعض حلوياته التي لم تمسّ الجوهر، لكنها تركت للمايسترو بعض الخصوصية لنعرف أنه مرّ من ساحة “ميس الريم”.
لم يسكر أندريه الحاج بالتصفيق الحار بعد الافتتاحية الجميلة، وهو سارع ليتحفنا بمعزوفة “رقصة العروس”… إنها تحفة مارسيل خليفة الجميل. أيام كان مارسيل يمطرنا بأغانيه وموسيقاه، ويسحرنا ويسكرنا… دقائق ونوستالجيا الزمن القريب، وذهبنا في رحلة سريعة كالبرق، وشاهدنا بخيالنا مارسيل وفرقة “الميادين”، وأعادنا أندريه بسرعة، ليهبط علينا بموسيقى “درب الصيادين” للمايسترو أنطوان فرح.
راح يتنقّل بنا بالنغمات، ليدخل بنا إلى موسيقى “نور” لوقا صقر… بروعة المزيج الموسيقي والنقلات المبهرة. كنت أعتقد أن عصا المايسترو عادةً تكون ليشير بها إلى الموسيقيين، متى ينطلقون، ومتى ينحرفون، ومتى يرتفعون، ومتى ينخفضون… لكنها مع أندريه الحاج لها مهمة أخرى… هي أنامله التي تصل إلى كل وتر، وكل قوس كمان أو تشيلّو، وكل إصبع ومفتاح من مفاتيح البيانو والأكورديون، وكل إصبع ريشة قانون، أو نفس ناي، وأي آلة نفخ، من قصب كانت أم نحاس.
أندريه الحاج هو العازف الوحيد في هذه الفرقة البديعة، لكن الأساتذة يساعدونه بالوصول إلى آلاتهم، ليشاركهم ويشاركوه… هذه ليست فرقة موسيقية، هذه فرقة سَحَرَة، فيهم كل أنواع السحر المحبب، والإبداع المذهل. (سأذكر لكم في النهاية أسماءهم)
ثم ينتقل الموضوع إلى الشراكة التي لا بدّ منها، فيقدّم لنا جمهور الموسيقيين هديتهم لجمهور السميعة، فنغنّي معًا، وبحب كبير، وحنين أكبر:

بكتب اسمك يا حبيبي ع الحور العتيق
بتكتب اسمي يا حبيبي ع رمل الطريق
وبكرا بتشتي الدني ع القصص المجرّحة
بيبقى اسمك يا حبيبي واسمي بينمحى…

كل واحد منّا هنا، أخرج فيروز التي بداخله وفي قلبه، ووضعها في قلبه وعلى لسانه، ورحنا نغنّي من حيث لا ندري… بل قل، كدنا نغني حشرجة ووجعًا على زمن جميل أطلّ علينا ليلقي سلامه ويمضي…
ثم يعيدنا المايسترو الشاطر إلى واقعنا، ويتحفنا بمقطوعة موسيقية جميلة “من وحي درويش” لشربل روحانا. ثم ينتقل بنا إلى معزوفة “متل القمر” من تأليفه… وأندريه الحاج مؤلف كبير، في موسيقاه عصارة وخلاصة “الشرق – عربية” بخصوصيتها وجمالياتها…
ثم نتوقّف قليلًا، لتدخل علينا السيدة آرپي عوّاد، عازفة البيانو، فنفهم أن أمرًا مختلفًا سيمرّ على هذا المكان الجميل، فإذا بالمايسترو يفسح الطريق للجميلة، الأنيقة، والدافئة الصوت، نادين عوّاد… نتذكّرها، نعم… إنها نادين، ابنة عرّاب المطربين وأستاذهم الراحل فؤاد عوّاد… التي قدّمت ذات يوم أغانٍ بالجملة للأطفال، وها هي تعود اليوم لتغني بكل إحساسها، وجمال صوتها، ولطف حضورها، أغنية من الصعب الجميل… أغنية “أنا لك على طول خلّيك ليّا” للراحل عبد الحليم حافظ، من كلمات مأمون الشناوي، وألحان محمد عبد الوهاب، التي غنّاها حليم (رحمهم الله جميعًا) في فيلم “أيام وليالي”. أعدّها هيثم سكّرية، وخفّف قليلًا من سرعتها، ربما ليقول لنا: تعرفون الأغنية واللحن والكلمات والفيلم، لكن الآن استمتعوا بالصوت العذب. استمتعوا بأداء نادين عوّاد الجميل، الحساس، المغمور بالدفء، والحب، والأناقة، والشياكة.
ساحرة نادين… افسحوا لها الطريق، ستعرفون أنها ليست مجرد صوت جميل، بل أكثر بكثير…
ثم يعيدنا الجو الموسيقي إلى “نسيم الرياض” لعلي الخطيب، وجمال التنوّع الموسيقي، وصخب الانسجام، لينهي الحفل بأغنية الراحل زكي ناصيف، كلماته وألحانه: “ميلي يا جنات بلادي”، بتوزيع ورؤية موسيقية خاصة من الفنان والمايسترو هاني سبليني…
وغنّيناها نحن، الجمهور السعيد بهذا المهرجان الجميل… وبجانبي الدكتور نبيل ناصيف، ابن شقيق الراحل الكبير، ومدير برنامج زكي ناصيف في الجامعة الأميركية في بيروت، الذي كان أسعدَنا في هذه اللحظة الجميلة.
وتنتهي السهرة، وتمنّيناها لو طالت لساعات… ونغادر، وفي القلوب فرحة ونشوة، وضحكات سعادة لا حدود لها…
هكذا، يكون “المعهد العالي للموسيقى” يؤدّي واجبًا تجاه جمهوره، على أكمل وأجمل وجه.

ملاحظة خاصة ولا بد منها ؛

الأوركسترا الوطنية اللبنانية
توقف نشاط الأوركسترا لأكثر من أربع سنوات، منذ تشرين الثاني 2019، نتيجة الانهيار الاقتصادي الذي أصاب لبنان. لكن هذه المرحلة الصعبة لم تطفئ شعلة الموسيقى، فمع تولي الدكتورة هبة القواس رئاسة المعهد الوطني العالي للموسيقى في حزيران 2022، انطلقت ورشة إنقاذ ثقافي شاملة، توّجت إعادة إحياء الأوركسترا.
وفي شباط 2023، عادت إلى المسرح في حفل كبير شكّل علامة فارقة وصفت بأنها عودة معجزة ضمن الظروف القائمة.
ومنذ عودتها، اتخذت الأوركسترا دورًا مجوريًا في مواكبة المحطات الوطنية والروحية الكبرى، حاملة رسائل موسيقية جامعة للهوية والانتماء. فقد نظّمت الأوركسترا حفل عيد الاستقلال اللبناني الرسمي من قلعة الاستقلال في راشيا، في لحظة رمزية أعادت من خلال الموسيقى إحياء الحدث التاريخي، وتمّ بدّ الحفل مباشرة عبر القنوات الرسمية. كما اختيرت الأوركسترا لإحياء اليوم الوطني السعودي، حيث قدّمت الحفل من الحمامات الرومانية في وسط بيروت على مسرح فريد أقيم خصيصا للمناسبة، تحت أنظار الحاضرين الرسميين، وعلى مرأى العالم أجمع من خلال البث المباشر. وقدّمت أيضًا أمسية خاصة في عيد انتقال السيدة العذراء من الساحة الرئيسية في جزين وسط إعداد بصري ساحر وأمام آلاف المشاهدين، بالإضافة إلى حفل عيد الفصح المجيد تحت غبة الصرح البطريركي في بكركي، بإنتاج موسيقي وبصري ضخم، تحت رعاية غبطة البطريرك الماروني. وتمتد
– قائمة هذه المحطات المشرّفة إلى مناسبات وطنية وروحية أخرى، تجلّت فيها الأوركسترا كصوت رسمي بعكس عمق الهوية اللبنانية وروحها الجامعة.
وفي سياق هذه النهضة الفنية، شارك عدد كبير من عازفي الأوركسترا للمرة الأولى إلى جانب زملائهم في الأوركسترا ألفلهارمونية الوطنية اللبنانية، لتشكيل أوركسترا موحّدة قدّمت ريبرتوارا خاضا لعدد من أبرز المناسبات الرسمية والإنتاجات الكبرى التي كانت علامات فارقة على الصعيدين المحلي والإقليمي. وقد عبّرت هذه التجربة عن روح الانسجام والتكامل بين التخصصين، وساهمت في توسيع الأفق الموسيقي وتوحيد الطاقات الفنية اللبنانية في محافل عالية المستوى.
تشهد الأوركسترا اليوم مرحلة نهوض فني وتقني نوعي، بقيادة المايسترو أندريه الحاج، وبالتعاون الوثيق مع عازف الكمان الأول ميشال خيرالله، وبدعم مباشر من الدكتورة القواس. ويجري العمل على استقطاب لخبة من العازفين ذوي الكفاءة العالية، إلى جانب الإعداد لتأسيس الكورال الوطني اللبناني للموسيقى الشرق.
– عربية، ما يفتح أمام الأوركسترا أفقًا جديدًا من التنوع والغنى في الشكل والمضمون.
وفي إطار رؤيتها الشاملة، تعمل الدكتورة هبة القواس على فتح آفاق الريبرتوار الموسيقي الشرق – عربي ليشمل كامل الامتداد الجغرافي والثقافي للوطن العربي، من الجزيرة العربية والخليج إلى المغرب العربي، متجاوزًا حصره بالموسيقي اللبنانية والمصرية. كما تطلق مبادرة لدعوة المؤلفين اللبنانيين والعرب المعاصرين لتقديم أعمال جديدة تُكتب خصيصًا للأوركستزا، تهدف إلى ابتكار صوت حديث للموسيقى الشرق – عربية، يُعبّر عن روح العصر ويحافظ في الوقت نفسه على الأصالة والجذور،
ونظرًا لفرادتها كمشروع موسيقي وطني لا مثيل له في العالم العربي، تولي إدارة الكونسرفتوار اهتمامًا خاصا بالأوركسترا، وتسعى إلى تنظيم جولات موسيقية في المنطقة والعالم، لتقديم هذه التجربة الفريدة كوجه من وجوه لبنان الثقافية في المحافل الدولية.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى