قال الرئيس… لماذا لم يقل الرئيس؟
قال الرئيس … لماذا لم يقل الرئيس؟
كتب جمال فيّاض
بعد صمت وثورة وفوضى الشارع، إستقال رئيس، وتكلّم رئيس، وبدأ الشارع يرتاح على أمل أن الآتي فيه حلّ لأزمة تجاوزت عمرها الإفتراضي بأزمان. تمادى الفساد طويلاً وكثيراً. العالم من أقصاه الى أقصاه يعرف أن في لبنان، مالاً كثيراً وثروات لا تُحصى، لكن الأكثر منها اللصوص والفاسدين. تمكّن الفاسدون من العقول والمشاعر والحماس والتعصّب، فأمسكوا بمفاصل الفساد وعاثوا بدولتهم فساداً وسرقة ومشاريع وهمية. وصل الأمر الى حدّ رؤية أكياس المال الفاسد توضع في البيوت والسيارات والمصارف بأم العين، ولا أحد يرضى التعرّض لزعيمه. وكأنه ساحر خدّر العقول والمشاعر. فصارت السرقة موهبة، والثراء ميزة. إذا “مازح القضاء” زعيماً وطلبه للسؤال لا المساءلة، عن مليارات مفقودة، نريد أن نعرف كيف وأين صرفناها، ينتفض الأتباع وتظهر الخطوط الحمر بصراخ من الجوارح. ثم تتبعهم رؤوس عيّنها الزعيم وأزلامه في مواقعهم لساعة مثل هذه الساعة.
فجأة ثار الناس، تحمّس المخدوعون، وقرروا أن لا سكوت بعد اليوم، لأننا لم نعد نجد اللقمة. نريد أموال دولتنا تطبّبنا فيها، تؤمّن ضماننا وتقاعدنا، نريد أن نجد لأولادنا مدرسة وجامعة وعملاً. نزل الجميع الى الشارع، وبدأت الصرخة تعلو، تليها صرخات. لكن كما في كل دول العالم التابع، لا بد أن تجد الأيادي السود حيلة لتهرب من قضاء الشعب وقدر الحياة. هاتوا شخصية لا تطيقنا، وحوّلوا المشكلة نحوها وصوّبوا عليها. بسهولة ويسر، صار الشارع يهتف ضد شخص واحد، قد لا يكون الشريف العفيف، لكنه بالتأكيد ليس الفاسد الوحيد، لكي تُلقى تبعات الفساد عليه. حسناً، جبران باسيل موضوع الثورة. صار الأزمة والهدف وعنوان الثورة. مع بعض المساعدة من إعلام فتح الشاشات بلا رحمة ولا حكمة. وصار لكل أزعر منبره المباشر يقول منه ما يشاء، بلا رقابة ولا حساب.
جاء الرئيس بخطاب لم يقدّم شيئاً، قلنا سيفكّر قليلاً ويعود إلينا بالحلّ. أطلّ مرة أخرى، ولم نجد فيه ما يبرّد الشارع الشاخن والمشتعل بالحرائق. ثم عادوا ووعدونا بأنه سيطلّ بحوار مباشر، قلنا هنا الزبدة من كل الكلام. سيقول بلا رقابة ولا مونتاج ولا حذف أو تعديل. سنسمع آخر الكلام وخلاصته، من كبير المتكلّمين. رئيس الجمهورية، أمام زميلين كبيرين وقديرين. بدا واضحاً أنهما حدّدا وقيّدا لسانيهما، فالحالة المتوتّرة لا تسمح بإطلاق العنان للأسئلة كما في الدول الديمقراطية. الذين أعدّوا لهذا اللقاء الذي كان يجب أن يكون مفصلياً، ما زالوا يعيشون في زمن إعلام الستينات من القرن الماضي. زمن النظام التوتاليتاري. أسئلة بلا لون ولا رائحة ولا شكل. كلام سطحي وبسيط، بذلة وكرافات وتسريحة شعر الرئيس أهمّ من الكلام الذي سيقوله. مثل هذه الأسئلة وهذا الحوار، لا يأتي بجديد، لكنه يحرّض على القديم.
في مكان واحد فقط، جاءت أجوبة الرئيس ذكية ومدروسة الملامح. عندما قال أن وزير الخارجية جبران باسيل، لم يكن يريد الوزارة في الحكومة المستقيلة. وهنا، لمّح إلى أنجبران زاهد بالوزارة في الحكومة القادمة. وقال هو جبران يقرّر إذا كان يريد الوزارة أم لا، وهذا معناه بلغة السياسة، أن إنسحابه من الحكومة العتيدة، سيكون بملء إرادته، لا بقرار من أحد. حلو كتير وجميل جداً، فهمنا أن الحوار بدأ يتجه نحو المصارحة والحلحلة. لكن الحوار، تابع نحو بعض الإنفعال. يريد الرئيس أن يحاور من يمثلون هذا الحراك، كلنا نعرفهم وهم أعلنوا عن أنفسهم في كل المناسبات، لكنهم لم يعلنوا عن القائد الممثل لهم. بتعليق لا يقترب من الذكاء بشيء، يقول نقولا ناصيف، إذا أعلنوا عنه تركبّون له ملفاً!! واضح أن ناصيف نسي نفسه، صار في جلسة في المقهى، ولم يعد أمام رئيس الدولة. يجيبه رئيس الدولة، “إذا لم يجدوا في هذه الدولة نزيهاً واحداً، فليرحلوا إذاً، لأنهم لن يصلوا الى الحكم… وأنا بتاريخي إذا لم أعجبهم سأغادر وليبحثوا عن غيري”. أمسكت “الأيادي السود” بالمفتاح المنتظر لتأجيج الثورة من جديد. الحوار الذي كانوا يخافون أن يقدّم حلاً فتفسد الخطط كلها وتضيع الأحلام، صار بكلمة مبهمة التفسير، مفتاح “صبّ الزيت في المرجل”. جاء ناس الشارع بعبارة مغايرة للحقيقة، “الرئيس قال اللي مش عاجبو خلليه يهاجر”. هكذا تداولوا العبارة، وفُتِحَت الشاشات من جديد، ونزل الناس الى الشارع في الليل بعد خطط طويلة وعيون وألسنة وآذان تعمل بكل الحواس لتعيد الثورة الى المربع الأول. جلس الفاسدون في المنازل، سعادتهم لا توصف. صارت الثورة على الحكم، على الرئيس على الوزير، على الصهر … على كل شيء، إلا الفساد!
الخطأ الخطيئة، أن سامي كليب ونقولا ناصيف، لم يحاولا أن ينتزعا من رئيس الجمهورية الجالس أمامهما لمرة واحدة فقط، أي وعد بالبدء بمحاربة الفساد. لم يعتبروا الفساد أولوية في كل ما يحصل. لم يتجرّا واحد منهما على سؤاله بالمباشر، ما هو التدبير رقم واحد بعد تشكيل الحكومة؟ هل ستذهب الى تشكيل الحكومة مهما كانت العراقيل أو المكوّنات لتبدأ بالإصلاح؟
الرئيس بدوره، لم يتحدّث عن جدّية في العمل على مكافحة الفساد. لم يركّز على هذه النقطة التي تدغدغ مشاعر المتظاهرين الحقيقيين. لم يشفِ غليل الناس بأنه من اليوم، يعتبر نفسه مفوّضاً بمطلق الصلاحيات وبدون خطوط حمر على أحد، للبدء بالضرب على رؤوس الفاسدين دون اعتبار لأي إنتماء أو مرجعية للفاسد. لم يقل الرئيس للشعب اللبناني العظيم، وأخيراً صرت حرّاً من كل القيود، أنتم حرّرتم يديّ من قيود كانت تمنعني من سجن الفاسدين وحجز أموال الفساد وإستعادة المنهوبات وما أكثرها.
لم يقل الرئيس، أن بعض من يتبنّى الثورة اليوم، في رقبته مليارات من ثروة سلبها من جيوب هؤلاء الثوار الغاضبين، سنستعيدها بقوة القضاء. فليجهّز كل فاسد نفسه للدفع والسجن.
لم يقل الرئيس، سأقوم بالتعيينات القضائية حسب ما تقتضيه مصلحة الدولة، لا حسب تعيينات الزعامات، لأن القضاء يجب أن يكون حرّاً وليس مرتهناً للزعيم الذي عيّنه.
سأحاسب بقوة مستمدّة من ثورتكم كل من يخالف القانون، وأعرف أن لا زعيم سيحرّككم طائفياً بعد اليوم، وسترون أني بكم وبقوتكم ودعمكم أستطيع. فقط إدعموني ولا تستجيبوا للتحريض العصبي المعروف في مجتمعنا.
لم يقل الرئيس جرّبوا مرة واحدة ألا تدافعوا عن الزعيم ظالماً، فقط لأنه يتحكّم بوظيفتكم ولقمتكم.
لم يقل الرئيس، لا جبران باسيل ولا غيره سيكون مفروضاً على وزارة أو نيابة، إلا بإرادة الناس.
لم يقل الرئيس شيئاً من تلك الخطابات الحماسية التي يستسيغها الجمهور الكبير في ساعات الغضب والثورة.
لم يسقط الرئيس، لكن سقط كل من أعدّ وشارك وحضّر وسعى لهذا اللقاء. سقطوا جميعاً وظهر أنهم لم يفهموا بعد لغة الشارع الثائر. لأنهم لم يعرفوا ماذا في عقول المتربّصين، ولا كيف يكون التعامل مع جمهور غاضب وثائر. وفضّلوا أقصر الطرق، طريق الحاكم ذو الشاشة الواحدة، والإذاعة الواحدة. وغاب عنهم أن في ال2019 فضائيات بالمئات، ومواقع تواصل إجتماعي ناشطة، ومشاعر صار سهلاً التلاعب بها للتغلّب على الحقّ بأسهل ما يكون. غاب عنهم من زمان، أن يحصّنوا الرئيس بإعلام قوي وذكي وفضائيات قوية وشديدة التأثير. وغاب عنهم أن إعلامهم وأدواتهم التلفزيونية التي اعتمدوا عليها، لا تساوي شيئاً أمام البأس الشديد للإعلام المضاد.
فخامة الرئيس، كل هؤلاء الذي يشيرون عليك، لا يفهمون شيئاً مما يحتاجه إعلام الرئيس والبروباغندا الذكية المطلوبة. هم ليسوا هواة، هم جهّال. يلعبون بمصير الرئاسة وبمصير وطن ودولة. لعبة الإعلام هي أساس القوة، والعدالة والحقيقة تأتي في مرتبة بعيدة. وتجربة العرب وقضاياهم مع العالم أكّدت من زمان أن الحق يجب أن تكون معه وسائل إعلام. وأن الباطل فاز وتفوّق بالإعلام.