قراءة في أغنية، عندما جمع “الوطن” بين صوت عاصي وشعر الفرّا …
كتب جمال فيّاض :
قراءة في أغنية “الوطن” لعاصي الحلاني وعمر الفرّا …
أطلق الفنان اللبناني أغنية “الوطن” التي كتبها الشاعر العربي السوري الراحل عمر الفرّا، ولحنها عاصي بنفسه، على توزيع موسيقي للفنان طوني سابا. والقصيدة الجميلة المليئة بالصور الفنّية أخذها عاصي من الشاعر قبل رحيله بفترة قصيرة، عندما سمعها منه في إحدى المناسبات، وكان الفرّا ألقاها بأسلوبه الفنّي، الذي يجعلك تسمعه وكأنه يغنّي بإحساسه الجميل. كان الفرّا مشهوراً، بمسرحة شعره، مما يوصل الصورة الصحيحة بأجمل شكل ومضمون. وفي قصيدة “الوطن” يشكو الفرّا، نسيان المغترب لوطنه الأم، متى هاجر واستقرّ وارتاح. هي حالة عتب في مكان، وحالة دعوة لاستيقاظ المشاعر في غربة، عن الوطن الذي يشبّهه الفرّا بحضن الأم، وثديها الذي لا ينضب عن ضخّ الحنان والحب لطفلها. مهما كبر الإنسان سيظلّ بحاجة لأمه، وحنانها وهو ملجأه الوحيد والنهائي مهما اغترب أو ابتعد.
أخذ عاصي على عاتقه تلحين القطعة المسرحية الشعرية، ووضع لها لحناً يناسب شخصيته في الأداء الإحساس. ومعروف عن الحلاني أنه يجسّد إنفعالاته الوطنية بأحلى تصوير. يدخل عاصي بالأداء الهاديء، على نقرات عود مليء بالشجن فيقول ” طيور البرّ تلفّ الكون، وتعاود لأرض الهاجرت منها، والسمك يعبر خليج الموت، قبل الموت ويعاود مكامنها. إلا الناس عجية الناس تعيش الغربة بالغربة، ولا تذكر مواطنها. في انسيابية الأداء الناعم، يفاجيء عاصي السامع عندما يعيد جملة “إلا الناس..” حيث يلاعب “إلّا الناس..” بتعريب تدريجي كما لو كان يكرّر “إلّا” الإستثناء، للتأكيد والتوكيد. “إلا الناس عجية الناس …تعيش الغربة بالغربة”. يدخل الإيقاع وكأنه نوع من “الحدا… ” تماماً كما “حدا” الأم وهي تهدهد سرير طفلها، “” الوطن يابني شبيه الأم، أن رادت ترضع وتفطم، إن رادت توهب وتحرم… في أي حالة إسمها الأم”. والصورة الشعرية هنا، تشير الى أن الوطن قد يقسو قليلاً، قد يرضع أبناءه أو يفطم لسبب أو آخر، ولكن يعود ليؤكّد “في أي حاله إسمها الأم”. بدون أي فزلكات وتوقعات يلحّن عاصي الجملة، ببساطة وبنعومة وانسيابية تشبه عتب الأم إذا ما عتبت. وغيظ الأم من هجر ولدها وهي التي تكظم غيظها بحنانها. وكأني بعاصي الملحّن، قد وضع القصيدة أمامه، وصورة أمه بجانبها، وأفرغ دفق مشاعره فيها، لكن بحنان صافي وطيبة ظاهرة. عندما يصل الى عبارة “لما نموت، في الغربة تظلّ الروح تلفانه”. إبداع الصورة الشعرية هنا، تذكّرنا بكل الذين أخذتهم الغربة وأبعدتهم عن بيوتهم وحواريهم وحيطانهم وتربة الحيّ والزاروب الشاهد على طفولة اللهو الرعناء، وعندما ماتوا، دفنتهم تربة غريبة وأحتوتهم بلا روح. فالروح كما يقول الفرّا بحزن، وكما أدّى عاصي بدمع غامض، “تظلّ الروح تلفانة، حزينة مشرّدة بالهمّ”. صعب جداً تصوير تلف الروح بالموسيقى والغناء والكلمات، لكن هنا، أقفلها عاصي على تصوير جميل، ونهائي. لا ثروة ولا جاه ولا مال ولا شهرة ولا نجاح، يمكن أن يخلق معجزة إنقاذ الروح من تلف أو غربة شرّدتها.
في المقطع التالي، يعود الشاعر ليكرّر فيقول “الوطن عزّة وكرامة، وصحوة الوجدان، الوطن صبر وعزيمة وقوة الإيمان، الوطن يابني ماهو لفلان وابن فلان، الوطن يابني ماهو طابع ولا هاتف ولا عنوان، الوطن يابني ماهو سايب يصير بلحظة مجنونة لأي كان… الوطن يابني شبيه الأم…”. الوتريات التي ترافق صوت وإحساس عاصي الحزين والذي تغمره حالة حزن ورجاء، تأتي بأحلى وأبهى ما يمكن لتصبح الحالة، تستدعي لحظة صمت وتفكير وتأمّل. بأبسط تركيبة لحنية، يوصل عاصي الحلاني نغمته وصوته وتصويره الغنائي الى القلب مباشرة، وبدون تكلّف أو تصنّع. هكذا فرضت الكلمات، وهكذا أمر الإحساس الشعري، وهكذا هي الدعوة، أن الوطن ليس لمن إمتلك مفاصله بمال أو بسلطة. والتواصل مع الوطن الأم، لا يمكن أن يكتفي برسالة عليها طابع بريد، أو باتصال هاتفي عابر للقارات البعيدة. هكذا هي دعوة الأم، وهكذا هو الوطن.
“الوطن ساكن عشق بينا ولو غبنا، الوطن للي بنى اللبنة على اللبنة، الوطن للي لاجل أرضه ورخص بابنه، الوطن يابني رقم واحد، وبعد منه يجي العالم. نهاية هالوطن يابني، الوطن عرض البني آدم”. هنا، يعلو صوت عاصي بالأداء ليتحوّل الى صرخة غضب، وصرخة إصرار وكأنها صرخة الحسم، أن الوطن عرض البني آدم، وانتهى الكلام.
في هذا العمل الذي فيه مشاهد مسرحية متنوّعة، وفيها تصوير موسيقي رفيع، ويكاد يكون أقرب الى الـ” أوبريت الغنائية” منه الى الأغنية العابرة، يمكن أن يكون عاصي الحلاني، قد أضاف الى أرشيفه الغنائي، عملاً يرفعه درجة أخرى، من درجات الرقيّ الموسيقي والغنائي، الذي يضعه في مكان مميز موسيقياً وغنائياً. فالأغاني الجميلة، قد تضيف للفنان شهرة وإنتشاراً وجمهوراً أكبر، لكن مثل هذا العمل،وهو ليس الأوّل في مشوار عاصي الحلاني المطرب والملحّن، يضيف للفنان تاريخاً فنّياً، هو الذي يبقى ويستمر، ويحفظه في مكانة التميّز.