قراءة موسيقية في قصيدة “لا تشكُ للناس”
... حكمة الزمان، يُطلقها الموسيقار د. طلال بصوت أصالة
بقلم د. جمال فياض
قد تكون أصالة أجمل وأقوى صوت عربي غنّت لكبار الملحنين العرب، وهي حظيت بألحان من سادة الألحان في الزمن الذهبي للأغنية العربية، سواء من محمد الموجي أو سيّد مكاوي أو محمد سلطان أو حلمي بكر وأسماء سجّلت نفسها على اللوح الذهبي للأغنية العربية، في مصر و العالم العربي. كل هذه الألحان الروائع كانت لها خصوصيتها، والغناء من ألحان طلال، له خصوصيته. فالملحن الذي عمل ويعمل باستمرار على أن يكون بألحانه صلة الوصل بين زمن من ذهب، وزمن شبابي حديث ومتطوّر، ينجح مرّات، ومرّات نراه يكاد يفلت من بين أيدي الموسيقى الأصيلة والطرب لكنه يعود ولا يفعل. لطلال خصوصيته في ألحانه، هو الحريص ألا يخرج عن الأصول الطربية الكلاسيكية، لكنه يبهرجها بروح حيوية تجعلها أقرب وأسهل على من يستصعب العودة الى أجواء القرن الماضي. يلحّن، فيُجمع عليه أصحاب الذوق الصعب، كما أصحاب الذوق العصري. فعلها من زمان، وما زال يكرّرها. فعلها عندما جدد شباب القصيدة بأصوات تمرّست بالأصالة مثل الراحل طلال المداح ومحمد عبده وماجده الرومي، وصولاً الى كاظم الساهر وحسين الجسمي وصابر الرباعي وأصاله ثم لطيفه وأغلب النجوم الشباب الذين “شبشب” الكلاسيكي فيهم، وجوهر فيهم الشبابي . هي قدرة طلال وتميّزه في صناعة الحالة، لا يخسر الشباب، ولا يخرج من دولة الطرب.
هذه المرّة، يضرب الموسيقار طلال ضربة معلّم جميلة، فيختار من الشاعر العراقي الكبير كريم العراقي، المشهور باعتماده الحكمة والعبرة والصورة المسرحية في قصائده، المغنّاة، أو الملقاة في الأمسيات. إختار طلال من العراقي قصيدة فيها حكمة وعبرة، وربما رؤيا فلسفية، فحوّلها الى شبه أوبريت من حيث التصوير الموسيقي للكلمات والمعاني، أو من حيث التلوين اللحني. ورسم شخصية أداء مميزة لفنانة كبيرة بحجم أصالة. هي أصالة التي تعوّدناها تنطلق من قمة الصوت وعلوّ الطبقات، تفاجيء مستمعيها هنا بسهولة جميلة، كلها إحساس وحنان… كيف؟ إتبعني عزيز المستمع لأقول لك كيف. فلم تعد تجوز الإطالة لندخل مباشرة في قراءة موسيقية للقصيدة الجميلة ولحنها المطرّز بالأنغام ..
تقول القصيدة التي كتبها كريم العراقي، وهو سبق وصرّح أن بيتها الأول حفظه بحب وإعجاب منذ طفولته ولم يعرف صاحبه، لكنه وضعه في أول القصيدة وأكمل أبياتها:
لا تشكُ للناس جرحاً أنت صاحبُه
لا يؤلم الجرحُ … إلا من بهِ ألمُ
شكواكَ للناسِ يابن الناسِ منقصة ٌ
ومن الناسِ صاحٍ ما به سقمُ
فإن شكوتَ لمن طابَ الزمانُ له
عيناكَ تغلي ومن تشكو لهُ صنمُ
وإن شكوتَ لمن شكواك تسعدهُ،
أضفت جرحاً لجرحك إسمه الندمُ
لا اليأس ثوبي ولا الأحزان تكسرني
جرحي عنيدٌ بلسعِ النارِ يلتئمُ
إشرب دموعكَ واجرع مرها عسلاً
يغزو الشموعَ حريقٌ وهي تبتسمُ
ومن سوى الله نأوي تحت سدرتهِ
ونستعين به عوناً ونعتصمُ
كن فيلسوفاً ترى أن الجميع هنا
يتقاتلون على عدمٍ وهم عدمُ…
دخول موسيقي مثل أي لحن من ألحان الكبار، لنقل أنها موسيقى “سنباطية” الروح، وزّعها المايسترو الجميل يحي محمد الموجي، ونسمع صوت كريم العراقي يقدّم بصوته مطلع القصيدة، لتجيبه أصالة غناءً.
النهاوند الجميل والملفت، قبل أن تدخل أصالة بالرست وتأتينا من المكان البسيط والسهل، ومن طبقة متوسطة، فيها طرب وإشباع من الإحساس المليء بالندم.. وكأنها مكسورة ضعيفة، تنصح نفسها قبل أن تنصح السامع “لا تشكُ للناس جرحاً أنت صاحبه، لا يؤلم الجرحُ إلا من به ألمُ”. هي هي، نعم … أصالة تغني نفسها لنفسها، ومن يشبهني فليسمعني ويسمع معي. تصوير مبسّط للكلمات، لكنه بمنتهى الذكاء. فالشكوى، وكتمها، لا تتطلّب أكثر من أداءٍ منكسر، وإحساس بالخيبة، وهذا تماماً ما صوّره طلال. عندما تصدح “شكواك للناس يابن الناس منقصة ٌ …” ، سيأخذنا طلال إلى صيحةٍ من صيحات فيروز في قصائد سعيد عقل التي لحنها الرحابنة. هو طلال، الأستاذ عندما يهيم في الزمن الجميل وبستان نغماته الثمينة.
في مقدمة الكوبليه التالي، ندخل في عالم آخر ، يستمر اللحن على الرست لكنه عالم التطريب الجميل، عالم هو ملعب أصالة، المجبولة بالزخرفات الطربية. هنا ستستمتع أصالة بالأداء، ستدخل عالمها الخاص في السلطنة التي تمتع وتُسعد وهي تطرّب. ولو أتيح لأصالة أن تغنّي هذا الجمال على المسرح، لما تركت عبارة ” فإن شكوت لمن طاب الزمان له، عيناكَ تغلي ومن تشكو له صنمُ … ” بحالها، بل لكانت أعادتها وأعادتها وزادتها تطريباً، حتى تجد نفسها تعيش السلطنة كما كانت أم كلثوم تعيشها في بعض مقاطع أغانيها. تقف عندها، فلا تتركها إلا بعد أن تُشبعها سلطنة وقفزاً بين المقامات والطبقات، فيجنّ الجمهور ومعه الموسيقيون، ليصلوا معاً الى حالة النشوة…. تبّاً لتسجيلات الستوديو، عندما يحكمنا بالزمن وعدد ضربات الإيقاع والموازير الموسيقية.
في الكوبليه التالي، سأقولها وبجرأة، يدخل علينا طلال، بلحن فيه الروح السنباطية البديعة والفخمة. وكأنها جملة فاتت الراحل رياض السنباطي أن يضعها مثلاً في لحن قصيدة أحمد شوقي “سلوا قلبي”، فوجدها طلال كجوهرة ضائعة ووضعها هنا بكل فخر.
يدخل بخلطة الرست ثم السوزناك، وهو خليط الرست بالحجاز، ليعود فيسلّم بالبيات… لعبة ملحّن ذكية وحرّيف كما لاعب كرة القدم المخضرم في ملعب جميل… “لا اليأس ثوبي، ولا الأحزان تكسرني، جرحي عنيد بلسع النار يلتئمُ…”. تقولها أصالة بلحن الموجوع، لكنها تعود لتنهض فتكمل “إشرب دموعك وأجرع مرّها عسلاً، يغزو الشموعَ حريقٌ وهي تبتسمُ”. ثم تنشد كما الإبتهالات والدعاء الواثق، وبصوت شديد الثقة بالإستجابة، ومن طبقة ترضيها تماماً وتجد فيها عزّ الأداء، تقول “ومن سوى الله نأوي تحت سدرته، ونستعين به عوناً ونعتصمُ”. وتذهب الى إنهاء الفلسفة – الحكمة، فتطلب أن “كن فيلسوفاً ترى أن الجميع هنا، يتقاتلون على عدمٍ وهم عدمُ”… قفلة ذكية بسيطة، تماماً كما الزهد بكل ما في الدنيا … حيث الجميع يتقاتلون على عدمٍ … وهم عدمُ.
هكذا وبدون فزلكات ولا تصعيبات، يقفل طلال الموضوع، وكأنه أنهى كلّ شيء ورماه الى العدم.
قصيدة “لا تشكُ للناس” حكمة ذكية، فلسفة وتبسيط للحياة وآلامها وهمومها، لكن اللحن تعامل مع المعاني بذكاء، والتوزيع الموسيقي أجاد التفصيل، وأتت أصالة، فاحتضنت كل هذه المعاني والتفسيرات والتأويلات، وخلطتها بإحساسها وجبروتها وقوتها بالمواجهة، وأكّدت أن هذا الكلام، وبهذا اللحن، ليس لأحد غيري أن يتصدّر له… وهي بكل ثقة، على حق.
الله على طلال، وعلى كريم وعلى يحي وعلى أصالة كيف أمتعونا بمثل هذا … زمان، يا سلطنة!