ليلة ماجد المهندس … عندما تسمع صوت الحب مباشرة
كتب جمال فياض – الرياض
يستأهل ماجد المهندس أن تحمل نفسك الى أي مكان يغنّي فيه، فكيف إذا كان المكان هو مدينة الجمال والنهضة الدائمة “الرياض” في المملكة العربية السعودية؟ وكيف إذا كانت المناسبة، سهرة عامرة بالغناء والإحساس وعنوانها “ليلة ماجد المهندس”. أصاب الذي سمّاه “صوت الحب” ، صوتاً نسمعه بين زمن وزمن، ويحلوا السمع في كل مرّة وكل مكان. من زمان، لم نستمتع بالصوت والإحساس والعذوبة، والمشاعر التي تسمو بالروح والشعور. من زمان، لم تخفق القلوب بإحساس غير مألوف. نحن تجاوزنا مرحلة المراهقة، ويأبى ماجد إلا أن يعيدنا إليها وبشغف وشوق وبراءة. “ليلة ماجد المهندس” ليست كباقي الليالي، ولا إحساس ماجد كباقي الأحاسيس، ولا أغانيه كباقي الأغاني. في هذه السهرة التي نظّمتها “روتانا” ضمن حفلات “موسم الرياض”، كنّا من آلاف المحظوظين الذين حضروا وشاهدوا، وسمعوا واستمتعوا … تعالوا أصفها لكم، أنتم الذين شاهدتم النقل المباشر عبر الشاشات، وما كنتم بين الجمهور المسحور في تلك الأمسية الساحرة..
المكان، “مسرح محمد عبده آرينا”.. وما أفخم هذا المكان، وما أجمل هذا التنظيم وما أجمل الإستقبال، في مسرح وصل الى قمّة الفخامة، وهو ما يليق بصاحب الإسم الذي حمله، فنان العرب محمد عبده. الصالة أفخم ما يمكن، والديكورات وتوزيع المقاعد من الصفوف الأمامية، حتى المتوسطة، وانتهاءً بالمدرجات الخلفية، التي منها يكون الصخب والحياة والتشجيع و”الكورال الحقيقي”. ففي هذه المدرجات جمهور مسحور ومبهور، يغني لماجد وينفعل معه، ويشعر بكل نبض قلبه وحبّه. تبدأ السهرة، فيطلّ الزميل الإعلامي اللبناني نيشان، فيرحب بجمهور ماجد، الذي أتى إليه من كل مدن المملكة والبلاد المجاورة، وبأحلى الكلام يحيّيه نيشان، ثم يحيّي الفرقة الموسيقية بقيادة المايسترو مدحت خميس، ويصل للإعلان عن نجم الحفل، فيستحضر نيشان أعذب الكلام، وكل شطارته بالتعبير واللغة والحب، فيصف ماجد المهندس بأجمل صفاته وميزاته، وكأنه يستحضره بالتعبير قبل أن يصل إلينا بصوته. يجيد نيشان فن الكلام، وفنّ التعبير بلا مبالغة، فيصيب القلوب والعيون بأناقته المعهودة. نيشان يخطف من المسرح الأضواء، ليغادر تاركاً خلفه عاصفة تصفيق للنجم الكبير، الذي يدخل بهدوء وحذر الحريص، لكن بهدير الحضور الجميل.
فرقة موسيقية ضخمة، من أكثر من مئة عازف، وأكثر من خمسين من الكورال، مع مجموعة من الشباب يقدموا الإستعراض التراثي المناسب لكل أغنية بلباس فولكلوري جميل… مدحت خميس، مايسترو كبير وقدير، يدير فرقته باحتراف كبير، وهو الدارس والخبير، والأهم أنه ترك للموسيقيين أن يثبتوا حضورهم، ولم يحاول ولو للحظة أن يسرق من نجم الحفل الضوء… لكن موسيقاه، كانت مضبوطة بحرفية مبهرة، حتى تكاد تعتقد أنها مسجّلة في الستوديو، لولا السلطنة الرائعة لبعض من الصولوهات البديعة. وطبعا لا يمكن أن تتغاضى عن الهندسة الصوتية الرائعة، التي تجعل الجمهور يسمع وكأنه يجلس بين الموسيقيين في صدر المسرح…
حسنا، قلنا ما قلناه، ووصفنا ما وصفناه، لكن عندما يبدأ ماجد بالغناء، سنستمع بصفاء ما مثله صفاء، وبإحساس ما مثله إحساس.
يدخل ماجد بأول كلمة وأول حرف، فتنتشر العذوبة، ويهيم الحب فوق المكان، وكأننا على رؤوسنا الطير، نستمع بإصغاء تام، لا صوت ولا أنفاس ولا حركة… يغني ماجد أولى أغانيه، فيقول : “وديني لك، أو تعالَ … وجيبيني لك، صاحبي يا حبني لك … إجلس وخللي الأماني تبتديك وتنتهي لك … ما للنجوم أوطان دام السما عيونك، بعثرت هالتحنان بلكاك وبدونك… بسمتك، من هو قراها، وضحكتك من هو كتبها ، ما تعرف من السوالف عشقها ولّا عتبها ..” كلمات كتبها الأمير سعود بن عبدالله، بإحساس ولا أجمل، ولحنها الموسيقار ناصر الصالح، وكأنه أخرج من قلب قلبه نغمة لم تكن خرجت بعد، فأذابها ماجد بإحساسه، وأطلقها مرة جديدة.. منذ النغمة الأولى، صاح الحضور كما في كلّ مرة، وهلّل للبداية الهائلة. كل مرّة، يغني ماجد هذه الأغنية، تعلوا التنهيدات وتخرج من الصدور. يعرف ماجد، كيف ينتزع النهدة بسلاسة ونعومة ورقة، يملكها مفاتيح السحر بذكاء. من أولها، دخل علينا هذا الصوت العذب، بالإحساس العذب، فماذا ترك للتالي من الأغاني؟ فعن يميني علت الأيدي تشاور له حبّاً، وعن يساري علت الأكف تصفّق إعجاباً… هو مسّ كهربائي من إحساس، يلتقطه الجمهور ولا يتركه حتى في الوقفات القصيرة بين أغنية وأخرى.
يتابع “البرنس” فيغني “يهزّك الشوق” فيسحر ويسيطر وينتزع القلوب بالحنين والإحساس(كلمات محمد الخاجه وألحان أحمد الهرمي)، ثم “تناديك”(شعر ياسر التويجير، وألحان أحمد الهرمي) ثم “عطشان يا برق السما” (ساري والهرمي) ، و”يسلوني حبيبك وين – أنا بلياك ” (كلمات رائد الأديب ولحن أزهر حداد ) و”رفوف الذكريات- للغروب بوسط قلبي ذكريات، ما تناساها الخفوق ولا نساها” (من شعر المنصور – ألحان الهرمي) … وعندما يصل الى “بديت أطيب، بديت أحسّ بك عادي، بديت أحسّ بك خارج حدود الآه وودادي، تعودت إني ما تعود على أنك لابغيت تروح أقول شوي ويعود … تعوّدت إني ماهلي إلا من طالت الغيبه، أقول لخافقي عود …”. الله الله الله ، يا ماجد، وكأن كل ما يكتبه له الأمير سعود بن عبدالله، يصيب وتر القلب بالمباشر ، ويرسم سهم اللحن وكأنه ينبض بالكلمات ليترجمها ماجد بصوته جمالاً وإحساساً .. وفرقة مدحت خميس تمنحنا فرصة سماع تفاصيل الوتريات الجميلة، والإيقاعات وكأننا نسمعها في الستوديو بكامل تجهيزاته التقنية. وتطير الصالة الضخمة التي اتسعت للآلاف وضاقت بهم، وبحبهم وحنينهم لكل ما يخرج من حنجرة “صوت الحب” والأحباب”.
لكن ماجد، لا يرحم جمهوره، ويستمتع بتبديد عقولهم وتركيزهم، فيعاجلهم بأغنية أخرى، ويسحرهم أكثر وأكثر. فيكمل “على الله يالبعيد” و”خد عيوني”، ويتوقف القلب عند “”بين أيديّا واحس أنك بعيد، ذوب باحضاني مثل قطعة جليد… علّم العشاق كيف الحب يكون، بلا حواجز أحلى طعم الحب أكيد.. ” … هنا الوقفة أصعب، وأكثر تجلّياً ، يعود بنا لأكثر من عقد من الزمن، للأغنية التي منذ سمعناها أول مرة وحتى اليوم، تعيدنا الى حنين جميل، وألم ممتع لذيذ، بكلمات الشاعر المرهف فائق حسن، وألحان المتجدد محمود خيامي. هذه الأغنية لا تغادر الذاكرة، وكلما مرّ عليها زمن، كلما جوهرت معانيها وإحساس مغنيها.
تابعوا معي، فالسهرة ما زالت طويلة، وتتوالى الأغاني فيها، فيغني لنا ماجد “ما همني إحساسه ولا ناسه”، ثم “أنا مسيّب” ليتوقّف قليلاً لاستراحة قصيرة.. ساعتان من الإحساس، وما زال ماجد، في عزّ توهّج الإحساس .. نلتقي بعد الفاصل!
ثم ندخل الى ماجد في الكواليس ونعبر عبر ممرّ زينته صورا كبيرة لنجوم وكبار الزمن الجميل ، ويكون اللقاء مع الصديق الحبيب، فلا هو تغيّر ولا تبدّل حرّ ملقاه للمحبين، عشرات من المسارعين للسلام عليه وتحيته، وعند رأس المقعد، يجلس عرّاب الحفل الكبير، مايسترو “روتانا” الأستاذ والمعلّم سالم الهندي، يبتسم أبو فواز بفرح عامر وغامر للنجاح، وحسن سير الحفل، وهو الذي أفنى عمره وشبابه، ليقدّم الغناء العربي عموماً والخليجي والسعودي خصوصاً ، بأجمل الممكن وأفضل شكل. وانتشار الأغنية الخليجية عربياً، قبل “روتانا” كان شيئاً، ومع “روتانا” صار شيئاً أهم وأكبر. ولا بد من التنويه للمايسترو “أبو فواز” بجهوده وتفانيه في ترتيب هذه السهرة الساحرة، ومعه فريق عمله الناجح دائماً، سواء ذكرنا طوني سمعان أو مهند شرفتلي أو أي من هذا الفريق الجميل والوفي.
خلف الكواليس، يقف صديق رافق ماجد طيلة مشواره الصعب،من البداية حتى الوصول الى القمة، بوفاء ومحبةوذكاء ومثابرة،هو فائق حسن، الرفيق الذي لا يترك تفصيلاً دون أن يدقق فيه ليكون المدقق الحريص على الكمال.. بقليل من الظهور،وكثير من المثابرة،ينجز فائق نجاح ماجد الذي يعتبره نجاحه هو.
بعد جلسة وقليل من الدردشة، نعود لنتابع السهرة الجميلة، التي نقلتها كاميرات المخرج الجميل والفنان أحمد الدوغجي للمشاهدين عبر شاشات “روتانا” و”ألفا-أوربت” مباشرة.
نعود، ونبدأ بالإستعداد للفصل الثاني، بشعور الذين لم يسمعوا بعد ، ولا هم شاهدوا شيئاً … وكأن السهرة تبدأ الآن. بشوق ولهفة لسماع الصوت المجبول بالإحساس أكثر، وأكثر من الأكثر. فتكون أولى أغنيات الفصل الثاني “الحب ما يحتاج وقت ومواعيد … من كلمات الشيخ ناصر بن حمد آل خليفة، ومن ألحان أحمد الهرمي … وكان مدحت خميس وفياً جداً لتوزيع سيروس للأغنية، فمنحنا فرصة سماعها كما الأصل، لكن ماجد يصرّ أن يضيف عليها جمال الروح المسرحية، فتنطلق الأيادي والأصوات من الجمهور، وتتحوّل الأغنية الى مهرجان وأحتفالية جميلة. ثم يقلب الجوّ الى وجه آخر، وجه الحب والرومانسية، فينتقل الى “ودعت روحي من قبل ما ودّعك، أشوفها تطلع ولو ما ودّها ، وليلة فراقك والعيون تطالعك حسيت كن الكون وقّف عندها … والدمعه اللي قلبت مواجعك، طاحت غصب ولا قدرت أردها … واصابعي عيّت تفك أصابعك، في اللحظة اللي صرت ماني قدّها …”. في هذه الصورة الشعرية الجميلة، والمليئة بالشجن والحنين، يصف الشاعر تركي آل الشيخ المشهد كما موقفاً درامياً، لا يحتاج للتصوير بالكاميرات، لكن ماجد بصوته وعذوبة الأداء يمنح الكلمات مشهداً بديعاً، على موسيقى تصويرية جميلة وضعها نواف عبدالله، وترك لنا الشاعر والملحن والمؤدّي أن يكون لكل واحد منّا أن نلعب بخيالنا دور البطولة… هذه الأغنية ّذوّبت” كل عاشق حاضر في المكان….
لا يكتفي ماجد بكل هذا، بل يمعن أكثر بدغدغة المشاعر والحنين المضاف، فينقلب علينا ويغني لنا “مر ماي .. مرما مرماي ولي غاية ولي مطلب، ومشتاق لأحساسك الأول ومحتاجه …” من شعر ساري ، ولحن سهم …. بعد فرحة النغمة، ينتقل الى “آني أحبك آني ريدك” ، وهذه المرّة من ألحانه سيغني لنا ماجد المهندس موال “آنا أحبك، آنا أريدك… واشتهي مرات لو تذبحني بايدك، أنا ودّي والله ودّي، أني أحسك مرّة ضدي، حتى ما يقتلني حبّك، ولو قتلني آني شهيدك ..” .. الذي كتبه شاعره ورفيقه الدائم، فائق حسن، وهو وضع لحنه العذب، فقط ليقدّم لنا إحساسه بأعلى الممكن … فأبدع كما في كلّ مرة، يؤدي فيه هذا الموال الساحر. لكن ماجد بذكاء جميل، ينتقل على نفس المقام، ليجعل مواله دخولاً ساحراً وجنونياً للأغنية الظاهرة “على مودك أنت وبس … “. هذه الأغنية التي منذ سمعناها وهي الفيصل بين الأغاني العراقية التي أداها ماجد وحققت له الشهرة الجارفة، وهي التي كتبها ضياء الميالي ولحنها محمد عبد الصمد. ثم “شدّ أنتباهي غرام ” و”على الذكرى” و”عندما يصل الى “ساحرني حلاها” تقف الجماهير تغنيها معه، وبسحر كبير. عشرات الأغاني يغنيها ماجد، فلا يتعب ولا يتعب الجمهور، حتى أذا دخل على رابع ساعة من الغناء المتواصل يسأل الجمهور، هل اكتفيتم؟ فيهتفوا بقلب واحد وصوت واحد “لااااااا …” ، فيكمل الأربع ساعات من الغناء المتواصل، ولولا أنه على موعد سفر لربما تابع حتى طلوع الفجر…
قد يكون ماجد المهندس، نجماً كبيراً وقديراً، له شهرته وجمهوره الكبير، بلا شك. لكنه، بالمقابل يتفرّد بالكثير من التفاصيل، بالإحساس العالي وهو أمر نادر لدى أغلب المطربين، والخجل الظاهر على محيّاه، وهو لا يتصنّعه، بل نعرفه عنه في كل تفاصيل حياته، وبكل علاقاته. أما الذكاء بالتعامل مع جمهوره، فحدّث ولا حرج. لأن ماجد يفهم بأسرع من البرق ماذا يريد الجمهور من غناء وألوانه الموسيقية، هو يعرف بحنكة وإحساسه اللمّاح، متى يعذبنا بمشاعره الحلوة، ومتى يفرحنا بالأغاني الإيقاعية، ومتى يتعبنا ومتى يريحنا… وفي كل الحالات، هو الساحر الجميل، هو الإحساس العالي جداً وبلا حدود … هو بكل معنى الكلمة، صوت الحب!