اخبار الفن

“مسافة أمان” والمراوحة في نفس المكان


بقلم: عامر فؤاد عامر

يُشيرُ أخوان الصفا في إحدى رسائلهم إلى أن: “الحركة تكون سريعة وبطيئة، فالسريعة هي التي يقطع بها المتحرك مسافةً طويلةً في زمانٍ قصير، والبطيئة هي التي يقطع المتحرك بها مسافةً قصيرةً في زمانٍ طويل، وعلى هذا المثال تُعتبر الحركات والمتحركات”.
جاءنا “مسافة أمان” مسلسلٌ مزدحمٌ بالأحداثِ المشوبةِ بتأثيرات الحرب، والتي تحمل انعكاس هذه الأخيرة على شخصيّاتٍ حقيقيّةٍ مبنيّةٍ إلى حدٍّ كبيرٍ من أحاسيسَ وأفكارَ تشبه شخصيّاتٍ من الواقع المُعاش، فهناك من كان ضحيّة، وهناك من علق في شباك تجارة الحرب، وهناك من يحاول أن يخرج منها بالهرب أو الاحتيال أو الانتحار، بالإضافة لشخصيّاتٍ تعيشُ دمارها وأملها بطريقةٍ خاصّة، وجاءت جميع الأحداث قابلةً للتصديق، ومؤثرةً في الشعور العام، والعمل من تأليف إيمان السعيد، ومن إخراج الليث حجو، ومن تمثيل عدد من النجوم والممثلين السوريين.
لعبة متوازنة حملها العمل بين كشفٍ لحقائق سببت الصراع بين الشخصيّات، فكان هذا الجزء للمتعة والإثارة، لكن الجزء الأهمّ منه حمل صيغة التنبّه والتحذير، وأعني جانب تجارة الأعضاء الذي التقط أرضه الخصبة في سنوات الحرب، هذا الجانب الذي لم تطرحه الدّراما السوريّة من قبل، وهو علامة تُحسب لهذا المسلسل، مع الإشارة حقاً أن فيلماً قصيراً تمّ تصويره العام الفائت يَطرحُ الفكرة ذاتها للمخرج علاء الصحناوي، والذي قد يُعرض قريباً في سوريا. لذلك يمكن القول بأن “مسافة أمان” كان مسلسلاً يحمل جانباً توعويّاً، ومسليّاً في نفس الوقت.
أمّا جانب التمثيل، فقد كانت الشخصيّات الرئيسة واعية لما تقوم به، ومتكافلة مع بعضها أمام كاميرا المخرج الليث حجو، مثل: “سلام – سلاف معمار”، و”مراد – جرجس جبارة”، و”سراب – كاريس بشار”، و”يوسف – قيس الشيخ نجيب” و”حسام – عبد المنعم عمايري” وغيرهم، لكن أيضاً الشخصيّات الثانوية كانت مساعدة بقوّة لتكامل العمل وتقديم لوحة قويّة مثل “أمّ زهير – نورا مراد”، و”سعيد – وائل زيدان”، و”ربيع حمدان – علاء قاسم” وغيرهم، باستثناء شخصيّة “علي – ينال منصور” التي حملت حضوراً لكنه غير مفعّل بمكانه الصحيح، ومن جانبٍ آخر الأحداث ساعدت على تشتت القصّة، فهناك تباعد بين الخطوط، يكاد لمن يرى العمل عدم تمكنه من رواية قصّة واحدة مندمجة بل رواية عدّة قصص في مسلسل واحد، أيّ عدم تلاقيها مع بعضها البعض، ولربما هناك إقحام إخراجي لتلاقي الأحداث مع بعضها لكنه غير ناجح، لذلك نرى أن صفة التشتت في العمل صفة واضحة.
ما يميّز بعض الشخصيّات في مسلسل “مسافة أمان” هو تعدد الأبعاد، فشخصيّة “نهاد – نادين تحسين بيك” كان قنبلة موقوتة أثّرت بقوّة مع تصاعد الأحداث والعلاقة مع جارتها “سراب”، وزوجها “حسام”، ووالدتها “أمّ نهاد – سوسن أبوعفّار”، فكانت شخصيّة جوّانيّة في مراحل وانفعاليّة، دفاعيّة، خاصّة، في مراحل أخرى، أيضاً لا بدّ من الإشارة لـ”صبا – هيا مرعشلي” والشخصيّة التي ترعرعت على أحداث حمّلتها أكثر من استطاعتها، فكانت متلقي الضربات من العم “جميل – حسين عباس” ومعينة لوالدتها “أمّ مروان – وفاء موصلي” ولأخيها “مروان – إيهاب شعبان” إضافة لتحدّي العمل وتسلّط “ربيع حمدان” عليها، ولا بدّ من الإشارة إلى أن العنصر الشاب برع أيضاً في هذا العمل بأدائه وحضوره فما قدّمه إيهاب شعبان كان ملفتاً إلى أنه ممثل قادر على المشاطرة بحضوره دور البطولة، وما أظهرته “نور – حلا رجب” كان أقرب لتكامل أبعاد هذا النوع من الشخصيّة، أيضاً كلّ من لين غرّة، وهيا مرعشلي، وكرم شعراني، وغيرهم.
نأتي إلى عنصر الإخراج الذي اعتدناه من الليث حجو في ضبط الشخصيّات وإتقان صورتها، وتقديم الكوادر النظيفة، لكن هل نجح في التناسب مع إيقاع تطوّر الأحداث؟! إذّ يبدو أن بطئاً ما لامس هذا العنصر في حين أن مساحة تطوّر ونمو الأحداث كانت أكبر بكثير، فعلقنا في مسافة غير متوازنة في كثير من حلقات العمل، فمن الحلقة الأولى إلى الثامنة لدينا ثيمة تختلف عنها من التاسعة إلى السابعة عشرة، وكذلك من الثامنة عشرة وحتى ما قبل الأخيرة، وتأتي الحلقة الأخيرة بخصوصيّة إخراجيّة تشبه إلى حدٍّ ما خصوصيّة الأولى، مع ملاحظة أن بداية الحلقات ونهاياتها لم تكن بنظام ثابت، فأحياناً نجدها تلعب دوراً تشويقيّاً يجعل من المتلقي على رغبة شديدة في معرفة ما سيحصل في الحلقة التالية، وأحيان أخرى تأتي نهاية الحلقة بصورة اعتياديّة ورتيبة جداً، لذلك يمكن الإشارة إلى أن المقدرة في استخراج المُتاح من الإثارة في النصّ لم تكن كافية، على الرغم من مقدرة المخرج في ذلك ببعض حلقات على حساب حلقاتٍ أخرى.
كانت الموسيقى لغة جماليّة خاصّة في هذا العمل، على الرغم من ألفة المتلقي لها، وهي ألحان الفنان إياد الريماوي، وما نلاحظه هنا هو غزو هذه الموسيقى للمشهد بقوّة كبيرة، فأحياناً يمكن للمتلقي كشف مسار المشهد من خلال نوع الموسيقى المُنتقاة له، وهذا خطير إلى حدٍّ ما؛ فأن تنافس الموسيقى بحضورها أهميّة الحدث فهذا يعني أنها ليس عنصراً اتكائيّاً وحسب بل هي تشكيل أساسي وزائد عن الحدّ المألوف ربما.
لا بدّ من الإشارة هنا لشارة العمل التي كانت بصوت الفنانة لينا شامميان والفنان إياد ريماوي الذي كتب ولحن وغنى أيضاً فيها، وكانت من العناصر الإيجابيّة المُضافة للعمل.
حمل العمل لقطات مميّزة تُظهر الشام بحميميّتها وألمها في نفس الوقت، منها عناصر البيت الدّمشقي العريق وسماع الآذان ولغة الحبّ متصاعدة بين “نور” و”يوسف” والعديد من المشاهد التي لن يسعنا ذكرها، لكن من الملفت الانتباه لحركة الكاميرا المُهتزة خاصّة في تنامي الأحداث وتزايد لغة الصراع بين الشخصيّات، بينما كانت أقرب للثبات والهدوء في مشاهد يمكن أن تتصف بالسلام والحميميّة والحبّ، ولكلّ ذلك وقعه العميق، في حين كانت الإضاءة تخدم القصّة وتلعب غزواً جديداً للمشاهد هي والألوان ونرى حضورها في كاميرا “يوسف” بارزاً إلى حدٍّ كبير، وكذلك في معظم المشاهد الخارجيّة، وهذا ما عرفناه من مدير الإضاءة والتصوير نزار واوية، والفوكس بولر عدنان مارديني.
من العناصر التي تلفت الانتباه أيضاً في “مسافة أمان” تصميم المكياج الذي قامت به وأشرفت عليه ردينة ثابت سويداني، فلكلّ شخصيّة ميّزاتها التي كان المكياج يكمّلها، ويأخذ بها نحو تفصيل يريح من يجسّد الشخصيّة.
أيضاً يمكن الإشارة سريعاً لبعض النقاط في العمل، وهي عن ضرورة حضور التعليق الصوتي الذي قامت بأدائه الفنانة شكران مرتجى، والذي لم يحمل صفة محدّدة، فهل هو تعليق سابق أم لاحق للحدث، وهل هو استنتاج خلاصات أم توصيف لقيم يعيشها أبطال العمل ويجربونها في زمن الحرب؟! وهل إذا تمّ استئصاله من العمل سيغيّر شيئاً من أهميّته؟! وإذا كان مهمّ شكلاً فما أهميّته مضموناً؟!
أودّ الإشارة إلى نقطة بارزة وهي سرعة تقبّل “مراد ونور” للقاطن الجديد في البيت، فقد كان وصفاً مثاليّاً للأسرة الدّمشقيّة التي لا يمكن أن تزوّج من بناتها إلا بعد تدارس عميق لمن يتقدّم للارتباط بها، وهي ميّزة ما تزال موجودة إلى اليوم شئنا أم أبينا، وهذا ما يذكرني بالخطأ الذ وقع به المخرج في مسلسل “الندم” عندما وزّع ربّ الأسرة التاجر الدّمشقي “أبو عبدو الغول” أمواله على أبنائه وهذا ما لا يحصل في الأسرة الدّمشقية إذ أن التاجر يمنح ابنه البكر غالباً القسم الأعظم من ماله حتى تستمر تجارته ولا يوزّعها بالتساوي لأن في ذلك خطر على استمرار اسم العائلة.
من الملاحظات التي يتوجّب ذكرها في مسلسل “مسافة أمان” أيضاً هو المشاكل المتلاحقة، والحرب القدريّة على أسرة “أم مروان”، والتي تثير حفيظة المتلقي للبحث عن الأسباب! فلماذا كلّ هذا القلق، وكلّ هذه المصائب؟! والأمّ ملتزمة صلاتها، والفتاة تحاول بناء حصنٍ تدافع به عن أهلها، والأخ يتيقظ ضميره، لكن القدر يبقى على أذيّته! وهذه معادلة غير متوازنة كان يجب الانتباه إليها، إمّا بذكر أسباب حقيقيّة على لسان الشخصيّات أو بتجّسيد شيء منها، وإلا سنكون هنا أمام فكرة أن الحياة غير عادلة وفيها من الدّمار ما يستحقه حتى النبيل في حياته وأخلاقيته، وهذا لا يجوز.
في النهاية لا يمكن إهمال فكرة رواج مسلسل “مسافة أمان” كأحد أهمّ الأعمال في الموسم الدّرامي الأخير، وهو شقيق لأعمال الدّراما السوريّة الكلاسيكيّة التي عشقها الجمهور وأحبّ حضورها، والتجريد الذي قمت به ليس إلا رغبة في تقويم السلوك الدّرامي نحو خلق إنتاج جديد من الدّراما السوريّة، قادر على مواكبة اللغة والصورة والزمن معاً، والابتعاد عن المراوحة في نفس المكان، بل تقديم اللغة الأبلغ كما اعتدنا من درامانا في مرحلةٍ سابقة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى