“ممالك النار” عندما نروي بعض الحقيقة، هل تصل الرسالة كاملة؟
دمشق – عامر فؤاد عامر
قدّمت شركة “Geno Media” للمتلقي نموذجاً في الإنتاج الدّرامي العربي الضخم عبر مسلسل “ممالك النار”، سبقه إعلانٌ مكثّف يتّضح من حجمه أيضاً خصوصيّة لا يمكن لأحد أن ينكرها، لكن هل حقق العمل رجع الصدى المطلوب منه؟ وهل اقترب من الغاية التي صُنع من أجلها؟ وهل كان الشكل الفنّي للمُنتج بدايةً جديدة في الدّراما العربيّة؟ لا سيّما أن حداثة التجربة يمكن التماسها من خلال عرض المسلسل على قناة “MBC” وتطبيق “شاهد نت” ثمّ سحبه منه، يليها عرضه عبر منصّة “Star play” وهذا شيء حديث نسبيّاً على المستوى العربي، ويتماهى على التجارب الغربيّة في العرض على منصات خاصّة مثل “Netflix”، بالإضافة للكلفة الإنتاجيّة التي يقال أنّها فاقت الأربعين مليون دولار!
أسئلةٌ كثيرةٌ لا بدّ من البحث عن إجاباتها، خصوصاً أن فئة الشباب هم الفئة المُستهدفة لمتابعة هذا الإعلام.
أضاء “ممالك النار” على حقبةٍ زمنيّة؛ كثيراً ما لاحظنا عبر مراجعنا في كتب التاريخ، بأنّهم يمرّون عليها بعجالة، وكأن هناك تجنّب من قبل المؤرخين لمرحلةٍ مهمّة وخطيرة في التاريخ زادت عن الأربعمائة سنة.
يبدو أن الشركة المُنتجة آثرت بشجاعة طرح عمل درامي مهمّ جدّاً على صعيد التقنيّة، وحداثة المعدّات، وطريقة العرض، واستقدام الخبرات، والكلفة، والسخاء في الإنتاج، ويبدو أنّهم مدّركون أن سخاء الإنتاج يؤدي إلى الصدى المرجو، والهدف المقصود، والعائد المالي، فمن يملك الدّراما يسيطر على الأوطان، وهذا ما تفعله “هوليوود” على سبيل المثال، وثانياً نستوضح الجرأة من زاوية البحث عن تلك الحقبة الزمنيّة الصعبة ضمن وقتنا الراهن، وأعني أن الردّ على تشويه التاريخ، والإمعان في الحقبة المظلمة هذه، التي جاء فيها سليم الأوّل، لتحطيم وتخريب حضارات، ومعارف كانت راسخة في المنطقة، وأدّت إلى تقسيمها؛ وجب الإشارة إليها اليوم من أجل تصحيح المسار – وربما عبر الدّراما – وأهميّة المعرفة هنا ترفع مستوى الحذر لدى المتلقي والأجيال الجديدة التي لم تطّلع على هذه الحقبة، ومن الإيجابيّات أيضاً محاولة ما يمكن إنقاذه من الزيف التاريخي، فمن المدهش أن بعض مناهج الدّول العربيّة تُدرّس فترة الاحتلال العثماني الدّموي على أنها مرحلة فتح إسلامي، وانتشار للدّولة الإسلاميّة! في حين أن البلاد كانت منفتحة على الحياة، والمعرفة البشريّة، والحضارة، ومن جاء من صحراء الأناضول لا يمكن أن يسبغ إلا الظلمات، وهم أبعد ما يكون عن الإسلام، ومن يدرس التاريخ يُدرك بالمقارنة أنها مرحلة استعماريّة تشبه عصور الظلام في أوربا، فقد نشر العثمانيون التخلّف، والقتل، والدّمار، وفقدان الهويّة والانتماء، والتجهيل، والتشريد، ونشر فكرة الحرملك، والسرملك، والسبايا، والجواري، والخصيان، والعبيد – في حين الإسلام أتى ليحرر العبيد – وإقحام في العثمنة، وخير شاهدٍ في الخواتيم مجزرة الأرمن، حيث أنهم قتلوا العلماء، وبحثوا عنهم بالاسم، وعذبوهم قبل القتل، وحتى الأطباء من بينهم، وحبّذا لو أشار “ممالك النار” بطريقةٍ ما إلى خواتيم الدّولة العثمانيّة ومجازرها كما ألقى الضوء على البدايات.
إنّ مجرد محاولة كشف المستور من تاريخ السلّطنة العثمانيّة، لهو فعل يُحترم، والتي كان شكل حروبها وتوسعها الجغرافي من أسوأ أنواع التوسّع الجغرافي الدّموي، والاحتلال في التاريخ البشري، بشهادة المؤرخين من الأتراك، وما أصاب المُشاهد العربي من شغف متابعة “ممالك النار” يُعدُّ محاولة واعية لنشر معلوماتٍ لا بدّ للمتلقي العربي الاطلاع عليها، ووجب على الدّراما العربيّة أن تضعها بين يديه.
يبدأُ العملُ بإيقاعٍ متسارعٍ من لحظة اغتيال محمد الجدّ المدعو ب”الفاتح”، وتسليم السلطة لبيازيد الثاني، يتمُّ بعدها إلقاء الضوء على مفاصل دقيقة تبيّن المنشأ النفسي لسليم الأوّل، السلطان الغازي، وتبرر للمتلقي من الجمهور الوحشيّة والجّشع الذي نشأ عليهما، وتبرز – بأسلوب القصّة المرويّة – شخصيّة المجرم منذ نعومة أظفاره، فسليم يكّره أخوته، ويُخفي الضغينة لوالده، ويمارس القتل وهو طفل، ولا يرأف بالحيوانات، وكثير من الموبقات يحيا عليها، والغاية لديه تبرر الوسيلة دائماً، وقد نجح العمل في أداءٍ جاذبٍ للممثلين، واختيار طريقة السرد الروائي الدّرامي، فكانت شخصيّة سليم في كفّة ميزان الشخصيّة الأولى، وتطويرها مقابل كفّة الشخصيّات الدّاعمة، والتي يتمّ تجاوزها إمّا سريعاً من خلال السرد أو حتى باللقطات التي لم تكن في أنواعها إلا مُبتعدةً عنها جميعها، ومقتربةً من شخصيّة سليم أكثر فأكثر، في المقابل كانت شخصيّة طومان باي في نفس اهتمام السرد المروي والعرض البصري، لكن أيضاً يتمّ التخلص منها تدريجيّاً من أجل المحافظة على سياق البنية الدّراميّة التي تكتنف على لغة الصراع.
من بابٍ أولى لا بدّ من الالتفاتِ لفكرةِ أنه لو تمّ عرض الحقائق التاريخيّة كما هي لكان هناك نفور أعظمي من متابعة العمل ككل! لأن الاطلاع على الحقائق التاريخيّة في تلك الحقبة بالذّات هي أصعب مما يتخيّله المرء في حكايةٍ تاريخيّةٍ، فمهما وصفنا من قتلٍ وتنكيلٍ وتعذيبٍ وخيانات وبيع جواري ونخاسة وغيرها، لن نصل لما حصل من مصائب وانهياراتٍ في تلك المرحلة المشؤومة، لذلك لا بدّ للعين الإخراجيّة أن تأتي بالقصّة على ما شاهدناه أيّ بقفزاتٍ زمنيّةٍ سريعةٍ، وبتجاوزاتٍ مقصودةٍ للعديد من الشخصيّات مقابل معرفة المُشاهد بأن كان هنالك قاتل ومحتلّ دموي يُدعى “سليم الأوّل”، شوّه ما أمكنه، ولو أتيح له أكثر لشوّه أكثر، من تاريخ الدّولة الإسلاميّة، فمن يرغب في معرفة التفاصيل ودقّتها ليذهب ويبحث من جديد عنها بين صفحات التاريخ، لذلك يمكن القول بأن المخرج البريطاني “Peter Webber” لعب دوره بتوازنٍ في المحافظة على عنصر التشويق لمتابعة أحداث تاريخ يخصّنا، وملاحقة تطوّر شخصيّة العمل الرئيسة “سليم الأوّل”، وهنا ينجح “بيتر ويبر” في وضع “ممالك النار” ضمن مصاف تجربة الموجة الجديدة للدّراما، والتي لم تألفها عين المتلقي العربي بعد في متابعة الأعمال الدّراميّة العربيّة، فهناك اعتماد على ربط أحداث دراميّة مع بعضها البعض بناءً على المتابعة، ولا يمكن اجتزاء حلقة ما ومتابعة ما بعدها لأن عديداً من المشاهد والأحداث المكثّفة ستكون قد عبرت، وسيشعر المتلقي بفجوةٍ حقيقيّة، على الرغم من الاعتماد على الربط السريع للجمهور في جمع الأحداث كليّةً.
يعدّ تنوّع جنسيات الممثلين من أهمّ العناصر في “ممالك النار”، فهناك ممثل سوري ومصري ولبناني وتونسي، وهذا يدلّ على الغنى والتشاركيّة الموفقة لصناعة محتوى درامي؛ هنا نشهد للشركة المنتجة بالدّور الريادي، على الرغم من التجارب الدّراميّة السابقة، ربما يكون علامة فارقة في تصنيف وترتيب الأعمال الدّرامية التاريخيّة العربيّة، ولا بدّ لنا من التعريج على الأداء اللافت، فقد كان للقدير رشيد عساف حضوره الأبوي، وهو من جديد يحتلّ مكانته التي ألفناها وأحببّناها، في حين تطلّ القديرة منى واصف في مشهدين مؤلمين مهمّين، لكنها تلعب فيهما الدّور بما يليق، وكأنّها الأمّ العظيمة التي تخاف لا على وليدها وحسب بل على الأمّة جميعها من الدّاء العثماني، ومن الوجوه التي لعبت تميّزها في هذا العمل كندا حنا التي قدّمت دور العاشقة ببراعة أمام خالد النبوي، ولربما دورها هنا هو أفضل ما جسّدته من شخصيّات في تجربتها الفنيّة، وعليها المحافظة على هذه السويّة في القادم من هذه التجربة، وهناك العديد من الأسماء التي لعبت أدوارها بحرفيّة وجديّة إلا أن عدم تسليط ضوءٍ كافٍ عليها هو أمرٌ مقصود لضرورة الحكاية ومغزاها، أمّا التفوق والألق في الأداء المحوري فقد نالها محمود نصر، إذّ منح شخصيّة سليم الأوّل صفاتها بتمعّن من دون أن ينفّر المتلقي منها، وهنا نقطة لا بدّ من الانتباه إليها في تكامل القصد الإخراجي مع مقدرة التمثيل العالية، فلو منح نصر شخصيّة سليم قالبها الشرير فقط لكان هناك ضعف في عنصر جذب المتلقي للمتابعة إلا أنه أعطى الشخصيّة صفاتها في قالبها الوحشي، وبكلّ حرفيّة دراميّة عاليّة، فكان المشاهد يتابع الأحداث باهتمام كبير مُدركاً دمويّة وخطورة ما جرى في تلك الحقبة المظلمة من تاريخنا، وفي نفس الوقت، معجباً بالأداء التمثيلي العالي المستوى للبطولة المطلقة، الذي توافق بشكلٍ أو بآخر مع عين المخرج، أيضاً نرى في اهتمام نصر للغته كممثل هنا أنه راعى بدقة الانتقالات المرحليّة لتطوّر الشخصيّة، فوجدنا سليم قبل استلام الحكم على حالٍ ما، وبات بعده في حالٍ آخر مع المحافظة على صفات مثل الغرور والأنانيّة وحبّ القيادة والقتل، والساديّة، وغيرها، وكذلك في مرحلة المرض والمكابرة عليه.
وهنا ارتأينا العودة إلى النص، وقد وجب ذكر بعض الملاحظات شديدة الأهميّة فيما وصلنا كمتابعين للشأن الدّرامي، فمن الأشياء اللافتة للانتباه أن هذا الصراع تمّ على أرض عربيّة فأين هي من مساحة النص؟
أيعقل أن تلك الفترة لم تحوِ شخصيّاتٍ عربيّة مناهضة للماليك وللعثمانيين؟! علماً أن هناك حركات مناهضة في تلك الفترة، أيّ مجموعات، وفرادى، والتاريخ شاهد على ذلك، ولسنا بصدد ذكر الأسماء الآن، إلا أنها موجودة، وتجب الإضاءة سيّما وأنهم أبيدوا بمجازر دمويّة، ومن زاوية ثانية لم يتضح الإيقاع الجمعي في رفض المماليك من قبل العرب، كما هو معروف تاريخيّاً، وعلى وجه الخصوص المماليك في مصر، التي أخذت جانباً مهمّاً في رصد الأحداث في “ممالك النار”، ومن الملاحظات ذات اللون الفاقع هو مشهد النهاية في الحلقة الرابعة عشرة، والتي لم تذكرنا إلا بمشهد نهاية المجاهد الكبير عمر المختار في فيلم المخرج الراحل العقاد المعروف في ذاكرة المتلقي العربي بوضوح، وكان من المتوقع أن يسعى المخرج لتغيير هذه النهاية، إلا أن النص هنا من يلام أكثر.
وأيضاً يعدّ السياق الدّرامي المُضاف المرتبط بجماعة “الجهاردية” غير موفق كفايةً، وحبذا لو يصار إلى الوقوف عند هذه النقطة وبعمق، بل بحاجة لبعض الضبط شكلاً ومضموناً، فالجمعيّة السريّة المنظمة لا يمكن أن تبني نفسها بسياق ملتبس في الفهم، ومشتت، فمرّة نجدها سريّة ومرّة لا مشكلة في العلنيّة، إلا إذا كان القصد منها شيئاً آخر!؟
لاحظ المشاهد أن المخرج مع فريق عمله لجأ إلى أسلوب اللعب على الألوان “COLORIING” فعلى امتداد 14 حلقة كان هناك لعب على التّدّرجات اللونيّة لم نألف مثيلها، لكننا لمسنا أن هناك قصد ما من قبل المخرج، لكن وجدنا أنها كثيرة، وأن كل خط له لونه عبر الرؤية “الفيجن”، هذه النقطة جاءت ملفتة للانتباه، وفي نفس الوقت فيها كثير من الإقحام لدرجة أنها غير مبررة كفاية.
أمّا بخصوص الملابس والإكسسوار، لا يمكن أن ننكر جدارة الفريق الذي قام بدراسة زمن الملابس، وشكليّاتها، وتصميمها، ولكلّ شخصية، فجاءت لتخدم الفعل الدّرامي بشكلٍ عالي المستوى وغير مألوف في الدّراما العربيّة، متوافقة ومنسجمة مع المرحلة الزمانيّة بدقةٍ قلّ نظيرها في درامانا التاريخيّة.
أحببت هنا أن أذهب إلى نقاش وجهة نظر حول الموسيقى التصويريّة، فبدا أن المؤلّف الموسيقي “أمين أبو حافة” وضع لغة موسيقيّة ذات إيقاع خاصّ مميز، لا يميل إلى المبالغات في غير محلّها، على الرغم من أن المرحلة تتسم بدمويّة عالية، ومسخٍ زمني للحضارة العربيّة عبر غرس التخلّف لأزمان لاحقة، ولم نتوقع أن تتمكن هذه الموسيقى الإشارة إلى هذا الأمر عبر إيقاعاتها الجميلة، ويُشهد لهذا الموسيقي بنجاحٍ واضح، لكن للأسف لم يكن للغرافيك مستوى ناجح كما باقي العناصر، ويعاب عليه أن هناك دراما يابانيّة مشابه لذلك، وكأنهم يستخفون بعقل المشاهد والناقد بأنه لا يعرف بوجود دراما مشابهة تحمل نفس الصفات، وهي نقطة سقط فيها فريق الجرافيك واستسهل، وهنا وجب على المعنيين الإجابة لماذا هذا التشابه الأقرب إلى السرقة غير المبررة في عمل عالي المستوى؟!