البهجة في بيتنا … يعني السمرا ، سميرة توفيق!

كتب جمال فيّاض
ما زالت سميرة توفيق في بال كلّ اللبنانيين والعرب. لم تغب يومًا عن الذاكرة، مثلها مثل كلّ كبار نجوم الغناء اللبنانيين من الزمن الذهبي. فنحن جيل لا نذكر في طفولتنا سوى أغاني وأفلام فيروز وصباح وسميرة توفيق وفهد بلّان وبعض نجوم تلك الأيام. وكانت سميرة توفيق واحدة من هذه المجموعة الصغيرة من الأسماء الكبيرة التي تدخل بيوتنا بسعادة، فتنثر فيها الفرح بشكل يومي. فالأهل كانوا لا يعرفون غير ما تبثّه الإذاعة، وما يبثّه التلفزيون… ومن كان يملأ هذا الهواء غير هؤلاء الكبار؟
رغم نجومية المطربين الباقين الواسعة، كانت الشاشة غالبًا محجوزة لفيروز أحيانًا، وغالبًا لصباح ووديع الصافي وفهد بلّان وسميرة توفيق. فقد كانوا أكثر كرمًا وسخاءً على الشاشة من غيرهم من نجوم ذاك الزمن. كانت سميرة تطلّ باستمرار في البرامج التلفزيونية، وتنافسها صباح مرّة، وفهد بلّان مرّة، وهكذا…
في الصيف تتنافس القناة 7 مع القناة 11 على بثّ الحفلات الغنائية وتصوير الحفلات… مرّة نشاهد حفلة لصباح، ومرّة لفهد بلّان، ومرّة لوديع الصافي… ومرّات لسميرة توفيق. كانوا يتّهمونها بأنها النجمة المفضّلة عند إدارة تلفزيون لبنان، وكانت الصحافة تلمّح للواسطة التي تميّزها عن غيرها في كثافة الظهور… (اليوم صار الفنان لا يظهر إذا لم يقبض أجرًا كافيًا). كلّ هذه السهرات كانت تسعدنا وتفرحنا، وكانت السهرة منهم تستدعي تجمّعًا من الأصدقاء والأقارب في بيتنا، كما في كلّ البيوت، لمشاهدة وسماع النجوم الكبار على شاشة “تلفزيون لبنان”. في كل سهرة، كنت طفلًا ألاحظ وأراقب وأفرح مع الفرحين بهذا الجوّ الجميل.
كان والدي – رحمه الله – رجلًا يحبّ قليلًا الفنّ والغناء، وخصوصًا المواويل والأغاني البلدية والعتابا. وكان صوته جميلًا ويحفظ الكثير من الزجل المُغنّى. لكنه لم يكن يتفاعل كثيرًا مع ما تبثّه الإذاعة أو الشاشة الصغيرة في المنزل. يعني، بمعنى أوضح، كان يشاهد ويستمع بتفاعل عادي جدًّا، بل أقلّ من العادي. وكان أكثر جدّية في العلاقات معنا ومع الناس… لكن من التي كانت تُخرجه عن هدوئه؟ من التي كانت تجعله يقف ويتبدّل بشخصيّته ويبدأ بالتمايل؟ من التي تسحره وتحوّله إلى شخص آخر، كلّه حيوية وفرح وسعادة؟ من التي تجعله شريكًا لإيقاعات الفرقة الموسيقية التي يقودها عبّود العال، ويضبط إيقاعها ملك الطبلة محمد البكري (البرجاوي) بطقشة الأصابع؟
إنها سميرة توفيق… لم تُحرّكه أغنية ولا حفلة ولا برنامج تلفزيوني، سوى إطلالة السمرا… كان يسمّيها “السمرا”… طلّت السمرا، وغنّت السمرا، الليلة السهرة في البيت، لأننا سنشاهد السمرا.
تتحوّل الشخصية الجادّة، التي لا تأبه للغناء بأنواعه، إلا عندما تغنّي السمرا… وانتقل حبّ السمرا إلينا بالعدوى… صرنا نحبّ السمرا، لأن البابا يحبّ السمرا… حتى والدتي – رحمها الله – أحبّت السمرا، وصارت كلّ إطلالة تلفزيونية للسمرا تعني بهجة بلا حدود في المنزل…
وأنا الراصد الصغير للغناء الجميل، حفظت أغانيها… وشاهدت أفلامها، وصارت واحدة من المفضّلات عندي. وعندما خرجت من ثوبها الغنائي البدوي المشهور، وغنّت: “مش موجود اللي يلوعني ويرميني بالحب”، انتبهتُ إلى أنّ في صوت سميرة حنانًا ودفئًا وإحساسًا لم يظهروا في أغانيها كلّها، إلا إذا تذكّرنا أغنية: “ما أقدر أقولّك، مع السلامة روح ما أقدر أقولّك”، التي كتبها ولحّنها السوري عبد الغني الشيخ.
أغنية “مش موجود”، التي كتبها ميشال طعمه ولحّنها عفيف رضوان، باللهجة المصرية، وغنّتها في فيلم “بدوية في روما” من إخراج محمد سلمان، كانت حالة من خارج المألوف تمامًا. لكنّ رصيدها من الأغاني الناجحة يكاد لا يتوقّف عند عدد…
“بالله تصبّوا هالقهوة وزيدوها هيل” وسكتش “علامك يا ليلى” و”نحن الحبايب حبايب” وسكتش “بصارة براجة” و”بين الدوالي والكرم العالي” و”حاسس بقلبي دقّة” و”حبيبي ضمني ضمّه” و”يا هلا بالضيف ضيف الله” و”أشقر وشعره دهب”… وكان شعري الذهبي يجعل كلّ من يسمعها وأنا طفل يشير إلى شعري الطويل… فأفرح وأعتبرها أغنيتي الخاصة. و”يا بو عبد الفتّاح، طاح العنب طاح”، و”يا خيّال الزرقا”… ولو أردتُ الاسترسال لكتبت مئات السطور ومئات الأغاني… طبعًا قبل أن نصل إلى “على عين مولايتي وطناش مولايا”… و”أسمر يا حبيب الروح” و”مرقت سيارة حمرا”… حتى “أيام اللولو” (إيلي شويري) التي جعلت سميرة توفيق تنافس المطربين الشباب من جيل كان يعتقد أنه تفرّد بساحة النجومية، وسحب البساط من الكبار…
سميرة توفيق اليوم، تعيش في الإمارات العربية المتحدة، بدعوة كريمة من قيادات الدولة الشقيقة، وهي تحظى هناك برعاية واحترام وتقدير يكاد يعجز اللسان عن وصفه. لم تنقطع عن لبنان يومًا، ولا مرّ يوم دون أن تتواصل مع كلّ الأهل والأصدقاء والجيران، والصحافة… نعم… سميرة توفيق ما زالت تتواصل مع الصحافة، وهذا ما يثبت الوفاء عندها، فهي لم تتوقّف عن تقديرها للأقلام عندما ما عادت بحاجة لها، بل على العكس، هي تُصرّ على التواصل لأنّ الوفاء طبع، وحبّ الصداقات والحفاظ عليها مبدأ. وإن مرّ زمن ولم نسأل عنها، تسأل هي وتتّصل هي، وتطمئن عنّا في كلّ مناسبة وحدث.
سألتها يومًا: قولي بصراحة يا ستّ الكلّ، هل أنتِ سعيدة في أبوظبي؟ هل أنتِ مرتاحة؟ هل أنتِ بحاجة لشيء ما؟ فتجيب بحماس وشوق كبير، وتقول: سعيدة؟ ومرتاحة؟ بل أريد أن أبحث عن تعبير أفضل وأكثر صدقًا…
أنا في بيتي وبين أهلي، والشيخة فاطمة – حماها الله وبارك فيها – لا تجعلني أحتاج شيئًا. الإقامة والطبابة والأمن والأمان وراحة البال، كلّها… لقد أعجزني أصحاب السموّ كلّهم عن الشكر، لا أعرف ماذا أقول لهم وعنهم. لقد أكرمني الشيخ زايد – رحمة الله عليه – زمانًا كثيرًا وقدّرني، وها أنا اليوم ما زلت مكرّمة ومعزّزة في هذه الدولة العظيمة، ولو أردتُ الشكر كما يجب لعجزتُ عن التعبير.
أنا بخير، وأتابع كلّ ما يحصل في لبنان، وهذا الصيف سأنزل إلى بيروت، للاطمئنان على الأهل والأصدقاء والجيران. بلّغ سلامي لكلّ من يسأل عني، ولكلّ الذين يحبّونني وأحبّهم من كلّ الأجيال. وأضمّ صوتي إلى كلّ مؤمن بالدعاء للوطن بالخير، للبنان والإمارات والأردن والسعودية والكويت ومصر، وكلّ الوطن العربي من محيطه إلى خليجه. لا تتصوّر كم لهذا الوطن الكبير والشعوب العربية من أفضال عليّ وعلى فنّي… أنا أنسى، ولا أنكر جميل كلّ الذين وقفوا جنبي وصنعوا نجاحي، من المسؤولين والجمهور.
سميرة توفيق، ذات السيرة النقية والذهبية، الحنونة على “الأسطول السادس” كما تحبّ أن تسمّي عائلتها، لم تتركهم يومًا، ولا خيّبت أملهم بها…
تعرفون ماذا تقول وتردّد وتسرّ للقريبين منها؟
تقول: “أشكر ربي كلّ لحظة وكلّ دقيقة وكلّ ساعة، أنه أعزّني وما أذلّني في هذه المرحلة من عمري، وأدعو بكلّ الخير للشيخة فاطمة، وكلّ هذه الأسرة المباركة التي أكرمني الله بها وجعلها سندي في حياتي…”
لكن، إن نسيتُ، لا أنسى القائدة الجبّارة، والأميرة النقيةوالملاك الحارس “لينا”، ابنة شقيقتها، التي تركت الدنيا وما فيها، لتتفرّغ لرعاية خالتها، الـ”زازا” كما تحبّ أن تدلّعها،
سميرة توفيق، فخر لبنان ومجتمعه الفني، بسيرتها الجميلة النقيّة… وقلبها الطيّب المحبّ…
نحبّك يا سمرا، وننتظرك هذا الصيف، تنوّري بيروت وكلّ لبنان…