امسية موسيقية راقية في الجامعة الامريكية في بيروت

أمسية موسيقية راقية في الجامعة الأميركية في بيروت: رحلة بين الباروك والرومانتيكية وروائع الموسيقى الروسية
قدّمت الجامعة الأميركية في بيروت أمسية موسيقية استثنائية حملت الحضور في رحلة فنية ممتدة من عصر الباروك إلى أواخر الحقبة الرومانتيكية، وصولاً إلى الموسيقى الروسية الغنية بالألوان التعبيرية. الأمسية شهدت مشاركة مجموعة من العازفين الشباب من النادي الكلاسيكي في الجامعة، الذين قدّموا أعمالاً مختارة بعناية، أبرزها لباخ وغريغ وبراهامز وراحمانينوف وتشايكوفسكي وغلينكا، وصولاً إلى ميدلي خاص لعيد الميلاد.
افتُتحت الأمسية مع الپريلود والفيـوغا بمي الصغير من كتاب البيانو المعدّل ليوهان سباستيان باخ، حيث قدّم العازف فارس عبد الله قراءة رصينة حملت مزيجاً من العمق التأملي والدقة الفنية التي تميّز هذا العمل، فبدا الحوار بين المقدّمة التأملية والفيوغا ذات الطابع الحركي كاشفاً عن عبقرية باخ في بناء النسيج الموسيقي المتماسك.
ثم انتقل الجمهور إلى عالم إدفارد غريغ عبر السوناتا للّتشيلّو والبيانو بــلا الصغير – الحركة الأولى Allegro agitato، التي أدّاها آنجيلو الخوري على التشيلو وكيفن يوسف على البيانو. حمل العمل الروح الإسكندنافية الواضحة في موسيقى غريغ، من حرارة الانفعال إلى اللمسات اللحنية المتدفقة، مع توازن لافت بين العاطفة والقوة التعبيرية.
أما لحظة التأمل العميق فكانت مع إنترمتزو بـــسي بيمول الصغير، Op. 117 No. 2 ليوهانِس براهمز، عزفه فارس عبد الله، وتميّز بروح حميمية وكتابة غنية تُجسّد مرحلة براهمية ناضجة، حيث اللغة الهارمونية المتحوّلة والجوّ الشجيّ القريب من الهمس الداخلي.
وتابعت الأمسية منحاها التصاعدي مع جوهرة من روائع الحقبة الرومانتيكية المتأخرة: الحركة الثالثة Andante من سوناتا التشيلّو بصول الصغير، Op. 19 لسرغي راحمانينوف، وقدّمها آنجيلو الخوري وكيفن يوسف. حملت السوناتا ما عُرف عن راحمانينوف من توترات داخلية وشجنٍ عميق، خصوصاً أنها كُتبت في مرحلة حساسة من حياته بعد معاناته الطويلة مع الاكتئاب وفشله الأول في السيمفونية الأولى. وجاءت الحركة الثالثة كخلاصة شاعرية بين العتمة والضوء، تدرّجت في تصاعد درامي مؤثّر قبل أن تستقرّ في نهاية هادئة مليئة بالسكينة.
ثم عاش الجمهور لحظات ممتعة مع عمل محبوب عالميّاً: مقطوعات من باليه كسارة البندق لتشايكوفسكي – المارش ورقصة جنية السكر – بتوزيع ميخائيل بليتنِف، وقدّمها رامي طنوس على البيانو. تميّز الأداء برشاقة لافتة، وبقدرة على إبراز الألوان الأوركسترالية الغنية للعمل من خلال البيانو منفرداً، مع الحفاظ على روح السحر والبهجة التي جعلت هذه المقطوعات أيقونة موسيقية عبر الزمن.
ومن التراث الروسي أيضاً، قدّمت مايا معلوف وسارة المالح ورامي طنوس ثلاث أغانٍ روسية لميخائيل غلينكا، حيث امتزجت الألحان الشعبية والروح القومية الروسية في حوار موسيقي بين الكمان والفيولا والبيانو، بما يعكس البساطة الغنائية التي مهّدت لصعود المدرسة الروسية على يد كبار المؤلفين أمثال تشايكوفسكي وريمسكي كورساكوف.
واختُتم الحفل بميدلي دافئ لعيد الميلاد، أدّته مايا معلوف وسارة المالح، يضم أشهر التراتيل مثل Hark! The Herald Angels Sing وThe First Noel وJoy to the World وJingle Bells. وتنوّعت أجواؤه بين الاحتفالي والتأملي، مقدّماً جرعة من الفرح والطمأنينة استقبلها الجمهور بحرارة كبيرة.
هذا الحفل نظّمه النادي الكلاسيكي في الجامعة الأميركية في بيروت، وهو تجمع شبابي يضم عشاق الموسيقى الكلاسيكية ويعمل على نشر هذا الفن في لبنان، وتنظيم حفلات دورية تجمع الطلاب والهواة والمحترفين، إيماناً بأن الموسيقى الكلاسيكية ليست مجرد خلفية سمعية، بل لغة إنسانية عميقة التعبير.
ومع سلسلة الأمسيات التي تجاوزت خمسة وأربعين حفلاً حتى اليوم، يواصل النادي دوره في إحياء هذا الفن الراقي في لبنان، وتعزيز الذائقة الموسيقية لدى جيل جديد من العازفين والجمهور على حدّ سواء.







