اخبار الفنكتب جمال فيَاض

جورج وسوف في طابا .. عندما تسمع القلوب وتهتف الجوارح


كتب جمال فياض – طابا

هنا في طابا، وفي نقطة من أرض مصر يشهد عليها التاريخ والجغرافيا. طابا التي عايشت الحروب والصواريخ والإحتلال والتحرير عند خليج العقبة، تعيش اليوم سلامها وسياحتها وجمال بحرها وطقسها ومنتجعاتها السياحية…
وتضرب هذه المرة موعداً جديداً مع جورج وسوف… لا تصدقوا أنه مجرد موعد لحفلة غنائية عابرة، تمرّ مرور الكرام. ولا تظنوا أنه مجرد مهرجان غنائي يقف فيه المطرب على المسرح فيغني أغانيه المعروفة، فيصفق الحاضرون، ويرقصوا ويغنوا معه وتنتهي الحكاية…
الموضوع هنا أمر آخر، ومختلف تماماً. فلا الحفل ضمن مهرجان وسلسلة حفلات. ولا الحفل لمناسبة عيد أو شم النسيم، أو إفتتاح موسم الصيف. الموضوع هنا غير كل هذا. الموضوع، أن جورج وسوف يأتي من خارج الحسابات والمناسبات. من خارج جدول المواسم السياحية. هكذا، مثل “الإربعاء بمنتصف الأسبوع” لا جدولة ولا برمجة. قرّر المتعهد أن يحيي حفلاً لجورج وسوف في طابا، فحدد موعداً عشوائياً، بلا حساب ولا دراسة. وقال هلمّوا الى طابا، وزحف جمهور من فلسطين ومن الأردن، ومعهم حضر المصريون، وامتلأ منتجع “موڤنبيك طابا” بالآلاف من رجال وسيدات وأولاد وأطفال. كلهم جاؤوا لحضور حفل للسلطان. حتى هنا الأمر يبدو طبيعياً وعادياً جداً. يطل جورج على جمهور فيشعلها طرباً وغناءً جميلاً، مع فرقة ممتازة كلها أساتذة، يقودهم بكل حرفية ومهنية المايسترو إيلي العليا، وهو المخضرم المحترف الذي لا تفلت منه نوتة دون أن يكون رَصَدَها وحدّد لها مكانها.
هستيريا؟ نعم هستيريا… أصيب الجمهور بهستيريا، نادراً ما نرى جمهوراً يصاب بهستيريا الإعجاب حتى البكاء. جورج وسوف كان يتمنى وهو لا يعرف كيف يمدّ يده لمصافحة هذه الآلاف من الأيدي العربية الممدودة إليه لتصافحه. فردّ التحية بالسلطنة. فلا ترك أغنية من أغانيه الناجحة إلا وغناها، ولا تجاهل عشق الجمهور لأغاني أم كلثوم بصوته، فغنى لهم مجموعة من أجمل مقاطع الكلثوميات، وعرّج على عبد الحليم، ليعود ويتابع بقديمه وجديده من رصيده الحافل بالروائع …
إنتهت الحفلة، وفرحنا وصفقنا وانطربنا بل انتشينا طرباً. وذهبنا الى جناحه، وهناك كانت المفاجأة التي لم تصدقها عين ولا يعقلها عقل. جمهور السهرة كله، بكباره وصغاره، بشبابه وشاباته، بنسائه ورجاله كله تجمهر أمام جناحه الفندقي يريدون السلام عليه. تزاحموا وتدافعوا وانحشروا حشراً لا مثيل له بانتظار أن يأذن حبيبهم لهم بالدخول للسلام عليه.
لم يكن ممكناً، بل كان مستحيلاً السماح لمثل هذا العدد من الناس وبمثل هذا الزحمة أن يدخلوا إليه. فأقفل المرافقون الأبواب وقالوا أبو وديع مرهق، ويعتذر منكم!!
لم يذهبوا وما غادروا… بل راحوا وبصوت واحد، يهتفوا …”أبو وديع ، أبو وديع” … سمعهم، ورغم وضعه الخاص قال، أدخلوهم ثلاثة ثلاثة!
وظلّ يستقبلهم ويلتقط الصور ويمازح الأطفال منهم، حتى ساعات الفجر ، حيث كان الإرهاق قد بلغ منتهاه. فاعتذر من الباقين وخرج الى الشرفة ليرتاح ويسمع رأينا نحن الأصدقاء الذين رافقناه في هذه الرحلة. قلنا ما قلناه وحكينا له عن كل ما رأيناه من حب الناس له ولأغانيه. أفرحه الكلام، ثم قال تعال أسمعك شيئاً، وفتح يوتيوب وشاهدنا معاً سهرة مسجّلة من زمان في تافزيون لبنان للراحلة نور الهدى وهي تغني قصيدة “يا جارة الوادي” مع فرقة عبود عبد العال، وسلطن وأخذته السلطنة ، حتى انتقل الى “أراك عصي الدمع ” من الراحل صالح عبد الحي …
في صباح اليوم التالي، أخرج من غرفتي، لأشاهد ما لم أشاهده في حياتي … مئات ، حقاً مئات وليس عشرات، يتزاحمون خلف الباب الرئيسي لمدخل الطابق، ينتظرونه منذ الفجر حتى يستيقظ ليتابع استقبالهم وأخذ الصور… وظلوا بالإنتظار حتى الظهر، مشهد لا رأيته ولا سمعت عنه من قبل. وبالفعل، ما أن علم أن هناك من ينتظره، طلب من الحراس فتح الباب للجميع، ودخلوا بالدور، واحد معه عوده أراد أن يوقع له على العود، وواحدة معها سبحة من الأرض المقدسة، ألبسته إياها تحميه ببركة السيدة العذراء، أطفال وشباب ورجال ونساء من كل الأعمار… لا أستطيع وصف هذا الذي رأيته!!
ثم دخلت مجموعة من الصبايا الدارسات في معهد الموسيقى، سمع أصواتهن، وأعجب بها كثيراً، فطلب منهن المزيد من الغناء حتى السلطنة، وشارك بعض أعضاء فرقته في العزف لهن وتحولت الجلسة الى جلسة طرب، ولا أحلى ولا أجمل!
جورج وسوف، جاء بصحبة مجموعة من أصدقاء أوفياء… منهم الطبيب، والمحامي والكاتب والضابط المتقاعد ذو الرتبة الرفيعة. وكلهم تربطهم نقطة مشتركة، هي حبهم للفن والغناء وثقافتهم الفنية الموسيقية الرفيعة. وتتحول الجلسات معهم الى جلسات نقاش فكري وثقافي وفني ممتعة، يستمتع بحديثهم ورفقتهم، وكأنهم أسرته.
ماذا أحكي لكم بعد؟
هل أحكي لكم عن الصحبة الحلوة لجورج وسوف ورفاقه؟ هل أحكي لكم عن التغيير الجميل في حياة هذا الإنسان الذي صال وجال في ليل الحياة ونهارها؟ وعاد الى حياته الهادئة، التي صارت تبكيه هتافات جمهوره المحب؟
هل أحكي لكم كيف وصلنا ومكثنا أربعة أيام بلياليها في طابا، ولم يغادر المحبون بابه من. الوصول حتى لحظة المغادرة ؟
هذا ما لم أره في حياتي … هذا العشق العميق الغميق لجورج وسوف، وهذه الهستيريا وهذا الغرام؟
هذا الجمهور المختلف، يسمع جورج وسوف بقلب وليس فقط بأذن، ويراه بقلب وليس بعين، ويشعر به بجوارح وليس بمشاعر وشعور …
جورج وسوف، كان منذ بدايته حتى اليوم حالة عصيّة على الوصف والترسيم والتشكيل ، وما زال كما الحياة، لا شيء فيها ثابت ولا شيء فيها محدّد … لكنه مثل الحياة، نحبها بجنونها وسكونها وكل تقلباتها!
عشت أبو وديع، لهذا الحب الكبير !

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى