حنّه، أم حسن … عندما تزهر السيدة بعد التقاعد

كتب جمال فياض
أعبر من رصيف الى رصيف فتخرج سيدة مسرعة بشعرها الأبيض من دكان صغير عند زاوية عمارة، لتستوقفني وتبدأ بالسلام وكلام الإعجاب، فتُخجل تواضعي بكلامها المعسول، فأستعيد توازني فوراً وأجيبها دون تفكير “دخيل العيون الزرق، وجمال اللون الأزرق في العينين ..”، تبتسم وتتابع، أنا إسمي حنّه ، فأجيبها يعني حنّه الساحلانيه في مسرحية “جبال الصوّان” للأخوين رحباني وفيروز؟
تجيب : كلا، أنا حنّه الكورانيه من الكوره، وأقيم في شارع الحمرا منذ عشرات السنين … ثم تتابع، أنت تكتب وتقول كلاماً فيه الكثير من العقل والصحة والمنطق وأنا أتابعك دائماً… رأيتك مرات تمرّ من هنا، وعندما تأكدت أنك أنت ، قررت السلام عليك وأن أتعرف عليك وأحيّيك …
لم يكن سلاماً عابراً، فالسيدة التي تبدو من ملامحها في الستين وربما أقل، تفضح عمرها عندما تحدثني عن ذكرياتها في الجامعة الأميركية قبل تقاعدها … تقاعدها؟ هذا يعني أنها تجاوزت الخامسة والستين، وعندما تقول تقاعدت منذ سنوات ، يعني أنها قاربت السبعين، ولا أظن ملامحها توحي بهذا!
لماذا تبقى حنّه بملامح الصبا والشباب؟ لسبب بسيط، لأنها تحب الحياة، وتعرف تماماً ما يدور حولها، ولأنها تشغّل عقلها بحكمة ودراية… السيدة حنّه تبدو مثقفة، ومتعلّمة بمستوى رفيع، أسألها فتقول :أنا من الكوره، والدي كان واعياً أكثر من المحيطين به، ولم يزوجني كما غيري من البنات في سن مبكرة، بل علّمني وتركني أكمل تعليمي … وعملت في الجامعة الأميركية لأربعين سنة، كل الطلاب الذين عرفتهم، صار لهم أحفاد، وأغلبهم ما زال يزورني ويسأل عني ، كنت أحبهم مثل أولادي، وكنت لهم الأم الراعية، وحفظوا المحبة وعشرة العمر…
لا ، حنّة.. ليست سيدة أرادت أن تستعيد ذكرياتها فقط مع شخص يعمل في الإعلام… حنّه، فتحت الحديث في السياسة، في فساد السياسيين، في الحكومة التي تفاءلنا بها، ولم تفعل شيئاً بعد… بسلاح المقاومة، والصراع العربي الإسرائيلي، وحرب لبنان مع جيش الإحتلال، بأحداث سورية وما يحصل فيها منذ سقط النظام السابق حتى اليوم …
تعرف حنّه أكثر بكثير من سيدات جيلها، من أغلب أبناء جيلها، ولكنتها الكورانية الجميلة، وهي إبنة الكورة في الشمال اللبناني، تنفعل وترفض الإستسلام للظروف، وتصرّ على أنها لها مواقفها في السياسة ولها رأيها … وبعد تقاعدها، رفضت البقاء بلا عمل، وتقول: مهما كان العمل متواضعاً، سيكون أفضل ألف مرة من الجلوس في المنزل بلا أمل ولا عمل … قرّرت أن أعمل في تصليح الملابس، وما أن فتحت هذا الباب، حتى قال لي الكريم “خذي” … أتسلّى بعمل بسيط، هواية أكثر منه عمل، لكنه يجني مالاً .. تقاعدي، سرقته دولة الفساد … تقاعدي، تحوّل من آلاف الى ألف دولار بعد عشرات السنين من العمل، بفعل انهيار العملة … لا يهم، بعدني بصحتي وبشتغل، بس ليت دولتنا تنتفض ونخلص من الفاسدين، ومن المأجورين…
تتحدّث أم حسن، كما الإسم المذكور على باب المحل، في تفاصيل السياسة، وتعلم وتشرح وتفصّل، وتعرب عن موقف وطني صريح، فتبهج قلبي بفهمها وعقلها ورزانتها … أكاد، أطلب منها أن تحضر كرسيين وركوة قهوة لنتسامر أكثر، السيدة الجميلة، بعينيها الزرقاوين، وشعرها الأبيض ، كلها كاريزما وتذكرني بوالدتي وخالاتي وعائلتي وأقاربي (رحمهم الله) وأطال عمرها …
وقفة لربع ساعة، حوّلت حنّه أو أم حسن الى صديقة، الى رفيقة، الى أمل بأن في هذا الوطن جمالاً ما زال يمتد فيقطر حزناً وتقطر أم حسن سحراً …
سأبوح لكم بسرّ صغير …
سأبحث في خزانتي عن ملابسي التي تحتاج لأي “تصليحات” فقط، لأزور الست أم حسن في مشغلها الصغير ، وسآخذ معي ركوة القهوة والبنّ بالهيل، وبحجّة التصليح، سأجلس معها أسامرها ، وأستمتع بثقافتها وحلاوة حديثها … وإصرارها على أن لبنان لن يدخل حظيرة الترويض الدولي مهما كان الثمن !!
ملاحطة:
الصورة تخيّلها الذكاء الإصطناعي من خلال وصفي لها … وقد أصاب الأصل بنسبة غير معقولة!!