كتب جمال فيَاض

زياد الرحباني… حين تخلّى العبقري عن الحياة كما تخلّى كل شيء عنه

كتب جمال فياض

رحل زياد الرحباني بصمتٍ صاخب، كما عاش تمامًا. في صباح السبت ٢٦ تموز ٢٠٢٥، توقّف قلب صاحب “بالنسبة لبُكرا… شو؟”، كأنّه سئم السؤال نفسه، وسئم الانتظار الطويل لإجابات لن تأتي.

كان يعلم. لم يكن مرضه مفاجئًا. تشمع الكبد أُعلن له منذ سنوات، لكنه تعامل معه كما يتعامل مع لبنان: يراقبه يتدهور، دون أن يملك حيلة أو حتى رغبة حقيقية في إنقاذه. أصرّ الأصدقاء على العلاج، فتحوا له أبواب العيادات والمستشفيات، داخل البلاد وخارجها. لكنه كان يردّ بجمود بارد: “إذا البلد عم يحتضر، شو نفع إذا أنا عشت؟”.

بهذه الجملة وحدها، يمكن تلخيص السنوات الأخيرة من حياة زياد. لم يكن مريضًا بالجسد فقط، بل بالوطن أيضًا. كان يرى بيروت تترنح، والثقافة تُهان، والكلمة تفقد معناها. وكلما حاول أن يكتب، أو يلحن، أو يعتلي المسرح، كان يسقط في هوّة السؤال ذاته: لمن؟ ولماذا؟

الذين اقتربوا منه في الشهور الماضية، عرفوا أنه كان في طور الانسحاب الكامل. أغلق هاتفه. غاب عن الظهور. لم يزر المسرح. لم يقترب من البيانو. كأنّه تآمر بصمت مع الزمن على نفسه، ووقّع صك الرحيل مسبقًا.

لكن، هل كانت النهاية ضعفًا؟ أم قرارًا واعيًا؟
زياد، الذي عاش حياته متمرّدًا على القيود، لم يكن يومًا عاشقًا للعيش فقط. كان عاشقًا للمعنى. وما إن شعر أن المعنى قد ضاع، حتى بدأ يتلاشى هو أيضًا.

يُقال إن الألم قرين العبقرية. بل هو مُحفّزها وسرّها الدفين. في حالة زياد، لم يكن الألم محفّزًا، بل جوهرًا. كان يكتب من جرح، ويؤلف من ندبة، ويتحدث من خيبة. لم يَعرف الطمأنينة، ولم يطلبها. كان مشغولًا دائمًا بالاحتجاج، بالصراخ، بالسخرية، بالتندّر الموجع. كانت موسيقاه تصرخ حين يصمت الجميع، وكانت كلماته تُضحكك حدّ البكاء.

ولأن العباقرة لا يموتون فجأة، بل يذبلون ببطء… اختار زياد الذبول على طريقته. لم يحتج إلى مشهد درامي، ولا إلى وداع علني. كل ما احتاجه هو أن يُطفئ الضوء، ويترك السؤال يتردد في الفراغ: ماذا تبقى من زياد… وماذا تبقى منّا بعده؟

ها هو يرحل الآن، لا مسرحيّة جديدة، ولا خطاب أخير. فقط صمت طويل، يتردّد فيه صدى وطن لم يَعُد يشبهه، ولا يُشبهنا.

زياد… العبقري الذي حين أُحبط، توقّف عن الكتابة. وحين يئس، توقّف عن العلاج.
وحين تخلّى الجميع عن كل شيء… تخلّى هو عن الحياة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى