منوّعات

فيليب العربي امبراطور الجنوب اللوحات الفسيفسائيّة المكتشفة في مدينة شهبا الأثرية وبُعدها الميثولوجي

كتب عامر فؤاد عامر:


تُدعى “فيليبوس” أو مدينة شهبا كما هو شائع اسمها حالياً، لكنها تكنت باسم الامبراطور فيليب العربي المولود فيها في العام 200 م. هذه الشخصيّة البارزة التي حكمت روما مدّة من الزمن من موقعه في الولاية العربيّة التي كانت عاصمتها بصرى حسب التقسيمات الرومانيّة آنذاك، وهذا ما يجهله الكثيرون، فأن يأتي شخص من أصول عربيّة عريقة ويعتلي سدّة الحكم لأكبر امبراطوريّة انتشرت في ذلك الوقت، لهو فخر كبير يجعلنا نبحث في أسرار تلك المرحلة وأبرز ما وصلنا منها من معرفة.
تذكر الدّراسات أن الامبراطور فيليب العربي، هو مثال للشخصيّة القائدة والطموحة والرائدة في المنطقة، تأثر بالبيئة التي ولد وعاش وحكم من خلالها، وتصفه الكتابات بأنه شديد العزم، ومتعلق بالقيم الأخلاقيّة، والمُثل الإنسانيّة العليا.
امتلك طموحه الخاص من خلال الدخول في صفوف الجيش الروماني، القادم إلى الشرق، فصفات الرجولة والمروءة والشهامة والشجاعة جعلته مؤهلاً أكثر من غيره ليتدرج في الجيش ويرتقي في المناصب ليكون في العام 243م أحد رؤساء الحرس الامبراطوري.
ومع اغتيال الامبراطور “جورديان الثالث” لبس فيليب ثوب الأرجوان الامبراطوري. وسعى لعقد الصلح مع الفرس، والسعي لكسب عطف مجلس الشيوخ، وهو الهيئة العليا في الدولة الرومانيّة، وسعى لإحداث العديد من الإصلاحات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والعسكريّة والحقوقيّة وغيرها. وقاتل ضدّ الاضرابات والحركات المناهضة للدولة، وانتصر على القبائل المتوحشة التي هاجمت حدود الامبراطوريّة في أوربا الوسطى. احتفل في عهده بمرور الألفيّة على قيام الدّولة الرّومانيّة كسيّدة للعالم. ثار عليه كُثر استياءً من إصلاحاته، وأعلنوا امبراطوراً جديداً عليهم “دوقيوس”، وتمّ دعم هذا الأخير بجيشٍ كبير، ووقعت الحرب بينه وبين فيليب قرب مدينة “فيرونا”، وانتهت المعارك بموت فيليب العربي 249 م.
عمد الامبراطور فيليب العربي إلى إثراء المدينة التي ولد فيها بدعم عمارة القصور فيها، واستقطاب أهم المعماريين والبنائين في تلك الآونة، ونقل مخطط مدينة روما كما هو ليبني شهبا على أساسه، وحقق جزءاً مهمّاً من هذا المخطط المعماري، وسيحتاج البحث في هذا المخطط إلى الاطلاع على تفاصيل مهمة بين الشوارع الأثريّة القديمة، والسور الكبير، والبوابات العالية، والمنافذ الصغيرة، واللوحات الفسيفسائيّة الكبيرة النادرة، وغيرها من الأثار، التي ما تزال صامدة كأبنية مُكتملة وشبه مكتملة إلى يومنا هذا كالمسرح الأثري والمصيف والحمامات والمشتى والمنحوتات وغيرها الكثير.
نلقي الضوء على لوحات الفسيفساء كبداية التي تنبع أهميّتها لندرتها من حيث التكوين (أصالة المواضيع التي تتحدث فيها) والحجم والمكان، فهي لاتشبه أيّة لوحات أخرى في العالم. وقلّة عدد اللوحات على مستوى العالم التي تنطبق عليها القواعد الفنيّة نفسها. وتشير المراجع أن هذه اللوحات تنسب لعهد الامبراطور فيليب وما بعد بقليل أب للفترة من 244 م إلى 249 م.
تمّ الكشف عن ست لوحات في العام 1962. ويمكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام تبعاً لأماكن تواجدها اليوم، فالقسم الأكبر (ألربع لوحات) بقي في مكان اكتشافه، أي في البيت الأثري أو الدار القديمة المُكتشفة، المؤلفة من ثمانية وعشرين غرفة، والتي كانت هذه اللوحات تزيّن أرضه، أمّا اللوحتان المتبقيتان فواحدة نُقلت إلى متحف دمشق الوطني والاخرى إلى متحف السويداء. أمّا متحف مدينة شهبا فتمّ إنشاؤه للمحافظة على مكان هذه اللوحات ووجودها. مع عدد من قاعات لعرض التماثيل والقطع الأثريّة المتبقيّة والمنحوتات البازلتية الكبيرة والصغيرة والمتوسطة الحجم، وأهمها رأس للإمبراطور فيليب العربي، يُظهر ملامحه وتفاصيل وجهه الحقيقي كما كان، منحوت من المرمر المُستورد.
أسماء اللوحات الأربعة: تيتيس ربة البحر، أورفه يطرب الوحوش، ، أفروديت وآريس، وأعراس ديونيزيوس.
في لوحة “تيتيس – ربّة البحر” الحوريّة التابعة لإله البحر “بوسيدون” تبدو مجهزةً بمجاذيفها وتتوسط اللوحة مزينة الشعر بأسماك البحر، للدلالة على العلاقة الوطيدة بين الإنسان والبحر. على جبهتها نجمة البحر، يصحبها تنينٌ أسطوري برأس كلب، ويلتفُ حول رقبتها – هذا الخيال والنسيج القصصي نجده مألوفاً في لوحات فسيفساء الشرق، وكلّ لوحة مجموعة من الحكايا والرمزيّات – اللوحة هنا تذكرنا باحترام البحر وتقديره. قدّمها الصُنّاع بطريقة ملفتة للانتباه وساحرة للناظر. تُعدّ أيضاً من أفتن ما قدّمته لوحات الفسيفساء على مدى التاريخ البشري، من حيث، دقة التفاصيل وإبراز النواحي الجماليّة في الوجوه، والتدرّج اللوني وتكثيف حجارة الموزاييك، لا سيّما في الإطار الداخلي، والمراكب الأربعة التي تشير إلى الاتجاهات، والفصول الأربعة، وإمكانيّة الصيد بحماية تسعة من الملائكة المُجنّحة، وتنانين البحر. تشير الدّراسات أن لهذه اللوحة واحدة شقيقة لها موجودة في ليبيا.
أمّا لوحة أورفيوس (أورفه) يُطرب الوحوش، فتروي قصّةً عن شاعر اليونان الأسطوري “أورفيوس”، المُغنّي والمُوسيقي الشهير، جالساً على صخرةٍ يعزف أعذب الألحان، ويُنشد أجمل الأغاني الساحرة، وتظهر حيوانات كثيرة حوله مترنمةً ومنسجمةً مع الإيقاعات التي يطلقها. هناك عناكب تتوقف عن نسجِ بيوتها، ونحلٌ تكفُّ عن جني العسل، وأنهارٌ وأشجار ساكنة، وأمواج بحرٍ هادئة، وكلّ ذلك و”أرفيوس” في مركز الحدث.
وبالنسبة للوحة المحادثة بين أفروديت وآريس ذات المفهوم الفلسفي العميق، فهي تحكي عن الجمال والفضيلة، وتبيّن أن الجمال ممكن أن يتحوّل إلى وباءٍ وقبح، في حال فقد صاحبه الفضيلة والحكمة والعدالة، وهي تحثّ الإنسان على الصدق، والابتعاد عن الأفعال السيئة، وعن ارتكاب الفاحشة. تقف في اللوحة “أفروديت” آلهة الجمال مع “آريس” إله الحرب، خلفه امرأة متزينة بعباءة ترمز إلى الحشمة والعفة، ووراء “أفروديت” نجد شابة اسمها “خارس” بيدها إكليلاً لتتويج الآلهة. في أعلى الزاوية اليمنى للوحة امرأة اسمها “سكوبي” تتكئ على صخرة، وتراقب المشهد من بعيد. يقدّم اللوحة ملاكين صغيرين يتراقصان، وملاكين آخرين يحملان السيوف.
اللوحة الرابعة أعراس ديونيزيوس التي تناقش قيم الصدق، المحبّة، الخوف، والكذب وغيرها. وتشير إلى نهاية الإنسان الوخيمة في حال اتصف بالقيم السلبيّة وعاشها. يظهر في اللوحة إله الخصب “ديونيزيوس”، وآلهة النبات “أريادنا”، بينهما إله حبّ صغير، يحمل شُعلةً بيده، رمزاً للرغبة بين الزوجين، واتحادهما في قرانٍ مُقدّس. تشير الدّراسات أن هذه اللوحة تؤكد تثبيت شرعيّة الزواج بالقوننة والشرائع التي نظمها الرومان. تحدّد اللوحة أن الزواج لا يقوم إلا بالموافقة من الطرفين ويُثبّت ذلك في العقود وبالشهود. نرى يسار اللوحة رجل عجوز كشاهد على زواج الإلهين، ونرى أيضاً أسفل اللوحة “هرقل” الذي يمثل القوّة، يتكئ على الأرض مبتهجاً بزواجهما، ويتناول الخمر في كأسٍ تعبيراً عن الفرح والجو الاحتفالي، ويلتحف بجلد سبع. تُطلُّ عبر زوايا اللوحة، أربعةُ وجوهٍ بشريّةٍ، كلّ منها يُمثّل فصلاً من فصول السنة، دلالة على استمراريّة الحياة، والخصب، والإنجاب، على مدار السنة.

القسم الثاني من اللوحات أو اللوحة الخامسة “آرتميس” المنقولة إلى متحف السويداء. نرى فيها مفاجأة “آرتميس – آلهة الصيد” في الحمام. تروي مشهداً أخلاقيّاً، يتحدّث عن الطبيعة، واستمراريّة العطاء والنمو، فقد كانت “آرتميس” العذراء تستحم برفقة وصيفاتها الحوريّات في نبع الماء، يراها الصيّاد “أكتيون” خلسةً وتقعُ عليه اللعنة والغضب، وتحوّله إلى غزالٍ تلاحقه كلابه الخمسين المرافقة له، حيث يرمز العدد هنا في الأسطورة إلى خمسينيّة الربيع التي تخصّ دورة النبات.
القسم الثالث من لوحات فسيفساء شهبا أو اللوحة السادسة المحفوظة في المتحف الوطني بدمشق، فيها ثلاث صور نسائيّة كُتبت فيها أسماء هذه النساء، فالأولى اسمها “أوتكنيا” تمثل ظاهرة الإنجاب الجيد، والثانية: “فيلوسوفيا” الفلسفة، والثالثة “ديكايوسينه” أي العدالة. تقدّس اللوحة أهمية الإنجاب والتربية وتعليم الأبناء وتثقيفهم. النساء الثلاث تتوسط اللوحة بحجمهنّ الكامل، أمّا على يمين وشمال اللوحة فهناك صور لوجوه بشريّة تدلّ على الفصول والفضائل.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى