اخبار الفن

في ذكرى رحيله .بعد أن حقـّق نظرية السقوط إلى أعلى.زارع الورد يتماهى بين العشب والمطر

بقلم : خالد قمّاش

في صباحٍ مثقل بالشدو .. وغناء العصافير من عام 1359 هـ .. كانت ولادة الضوء في ( زمان الصمت ) و ( عمر الحزن والشكوى ) , وبين أزقة ( الحجون) وأروقة ( سوق الليل ) تداعت أولى خطواته وطفولته الملقاة على قداسة ( زمزم ) .. ونورانية ( الحرم المكي ) .

كان أبوه يمتهن السقاية ليطفئ ظمأ العطشى في ( دور الإيتام ) .. وفيما بعد تولى هذا ( الطلال ) هذه المهنة ولكن في ( دور المتيمين ) !

• وبينما كانت مدينة ( الطائف ) غافية في أحضان الغيم وأحشاء العشب .. تتنفّس بياضا مبهجا .. وتحيك خيوط البرد في دفء الروح هاجر هذا ( الطلالي ) المعتّق برائحة الفن العدني الأصيل إلى هذه المدينة .

• هذه المدينة الحالمة .. التي يصفها علماء المثيولوجيا بأن سبب تسميتها بـ ( الطائف ) ترجع إلى أن أحد الملائكة طاف بها الأرض بعد أن اقتلعها من إحدى حدائق الشام الغنّـاء .. واستقر به المقام فوق هذه الربوة المرتفعة عن مستوى سطح البحر بما يقارب 1300 قدم .. وألم !

نشأ ( طلال ) كبيرا في هذه المدينة .. وشرع يرتّل ماتيسّر له من العزف والنزف الأنيق .. بعد أن تبناه خاله( علي مداح ) , وأسبغ عليه اسم شهرته وتحوّل من ( طلال عبد الشيخ الجابري ) إلى ( طلال علي مداح ) .. فاختلف الإسم ولم يختلف الرسم والوسم !

• كان يخبئ ( عوده ) الندي في مرافئ محبيه .. من أصدقائه الفتيان الذين كانوا يتحلّـقون حوله .. ويتسلقون طوله .. إلا أن الوردة فاح عطرها , وباح سرها .. فأخذه ( محمد الريس ) – وهو من كبار فناني الطائف – بيده إلى مسرح الشهرة الأولى ، ثم تلقفته مدينة السهر والبحر والنساء .. مدينة ( جدة ) .. وسجل هناك أول أغانية العاطفية ( وردك يازارع الورد ) وغناها أنذاك على مسرح الإذاعة ، فاعلن البحر عذوبته .. وظلت ( النوارس) تجغرف تاريخ شواطئ السهاد في عيون محبيه .. وعشاق صوته !

• لم يكتف هذا المغرّد المتشرّد في غوايات الفن الشهية .. بزراعةالورد في قلوبٍ أحاطته بالشمع والدمع .. بل غادر إلى لبنان الجمال .. وسجل أول عشر أغاني وأماني .. فتعانق البحر مع النهر !

• اتفق كل من ( موسيقار الأجيال ) و( كوكب الشرق) على جمال صوته وروعة إحساسه .. واختلفا في طريقة لقائه ووداعه .

• مُـنعت بعض أغنياته .. وأوقف عن الغناء بعد أن استخدمت ( اسرائيل ) إحدى أغانيه ( الخارجة عن سياق المألوف ) سياسيا لتشويه صورة الفن العربي الحجازي .. فاختـنقت حمائم السلام في أقفاصها الصدرية .. وأضربت عن الطيران !

• كان صوت ( طلال ) مغسولاً بالضوء .. وابتسامته شرفة لإملٍ قادم في فضاء الأغنية العربية.. ومن ألحان وأشجان ( سراج عمر) السراج الذي انطفأ قبل أن ينضب زيته , غنى ( وطني الحبيب ) فتحسّسنا نبض أرضنا .. وتلمسّـنا أرض نبضنا , وأدركنا مقولة شكسبير الشهيرة في إحدى مسرحياته : ( التراب يبقى .. والخطى ستزول ) !

• طلال مدّاح .. أو قل طلال صّداح ..

عاش مخلصا لفنه .. مبعثرا كما يليق بفنان صادق .. شعبيا بسيطا .. ضاحك الملامح وأوجاعه ممطرة .. بشوشا في وجوه الأصدقاء وقلبه مرتعا لندمائه .. ما يحمله في جيبه ليس ملكه , وما يملكه ليس في جيبه .. إنسانيا حد الطُهر .

• طلال .. لم يتاجر بصوته .. بل استمر طيلة حياته – وحتى بعد وفاته – يوزّع أرغفة الشجن الساخنة لكل المفتونين بالليل والحبيبة المتناسلة من رحم ( الحارة ) البسيطة .. وكلما نعس جفن العاشق .. صاح منتشيا :

( سيدي قم .. ما خبرت اللي يحب يشتهي النوم ) !

• في حياته أحبه الملايين .. وبعد رحيله تضاعف عدد محبيه .. وكأنهم لم يكتشفوا أو يرتشفوا من نبع صوته الرقراق إلا بعد وفاته !

وهذه ميزة الفنان الحقيقي .. الذي يبرهن للناس وللتاريخ بأن ليس له فترة صلاحية محددة !

• وفي آخر أيامه .. وآلامه

كان قلبه مثخنا ً بجراح طازجة , وخيبات سامقة من زمنٍ متردٍ , وأصدقاء متمرغين في وحل المصالح البرغماتية .. نصحه الطبيب بعدم ( الغناء ) .. فأبى البلبل إلا أن يغرّد كغيمة شاهقة / حارقة .. وأضحى ينشد :

( الله يرد خطاك .. لدروب خلانك ..

لعيون ماتنساك .. لوطال هجرانك )

وفي تلك الليلة .. التي غنى فيها ذات زمن فارط ( أحلى اليالي تراها ليلة الجمعة ) تماهت ليال العمر في ليلة واحدة .. وسقط فيها إلى الأعلى .. بعد أن منحنا ( في ليل الياس شمعة .. وبسمة نهار ) .. وخلف لنا ( في ضياع العمر دمعة .. وسكة ودار ) !

• وحزننا كان أعمق .. بعد أن مات ولم يسمى باسمه ( شارعا ) أو ( ميدانا ) .. ولم يسمى باسمه حتى ( المسرح ) الذي شهد آخر تجلياته الغنائية .. ( مسرح المفتاحة ) .. هناااااااا ااااك .. جنوبا باتجاه القلب ! ويكفي .

المصدر : مجلة جواهر الإماراتية

2005م

@Khalidqmmash

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى