كتب جمال فيَاض

في ذكرى رحيله قراءة في إحدى روائع الموسيقار فريد الأطرش …. “الربيع “

?????????????????????????????????????????????????????????

بقلم د. جمال فيّاض

مشهديه موسيقيه دراميه فيها إبداع وحالة لحنيه متنوّعه …
=============================================
يروي الشاعر الراحل مأمون الشنّاوي (وهو شقيق الشاعر الكبير كامل الشناوي ) أنه ذهب ذات يوم من أيام العام 1947 للسيده أم كلثوم وكانت في حينه مطربة ذائعة الصيت وفي شهرة متصاعده، ليعرض عليها كلمات أغنية ” الربيع ” ، وفيها عرض لحالة حبّ من خلال تشابه بين الفصول وتقلّبات الحالة النفسيه للمُحِب … قرأت أم كلثوم الكلمات وأعجبتها لكنهاإقترحت تعديل بعض الأبيات فيها … وأتفقت مع الشاعر الشاب أن يأتيها في اليوم التالي لجلسة تقييم وتعديل بعض ما ورد في القصيده … يتابع الشناوي ، خرجت قلقا من هذا الطلب ، فأنا كنت أرفض رفضا حازما جازما أن يعدّل ما أكتبه أحد … والتقى صديقه المطرب والملحّن فريد الأطرش وهو كان يسكن في شارع قريب من سكن المطربه الشهيره أم كلثوم … وحكى له حكايته مع الأغنية التي كتبها . طبعا فريد كان مثل كل فناني تلك الأيام يتمنى أن تغنّي له أم كلثوم ، أقتنع مأمون أن يأتي معه ليجلسا قليلا ، وحاول أن يستمع لكلمات الأغنيه التي وافقت عليها أم كلثوم … وراح يدندن على عوده اللحن ، لينتهي الى وضع الشكل الأساسي للّحن والصورة الفنيه خلال ساعات … وظلّ يعمل عليه حتى أنجزه كاملا … وعندما فقد الأمل في أن يصل الى صوت أم كلثوم ، غناه بنفسه وجعله إحدى أغنيات فيلم ” عفريته هانم ” الذي قام ببطولته الى جانب الراحله ساميه جمال التي لم تتكرر في فنها وظلّت سيّدة الرقص الشرقي حتى اليوم دون جدل .
ظهرت ” الربيع ” في البداية كأغنية قصيره في فيلم ، وهي مؤلّفه من عدة كوبليهات ، وهذا أمر طبيعي لأغنية يغنيها المطرب في فيلم سينمائي ـ حيث لا يجوز أن تطول لأكثر من دقائق معدوده . لكن الموسيقار فريد الأطرش ، ظلّ يغنيها في أغلب حفلاته ، حتى أصبحت لاحقا بمثابة الإعلان الفني الرسمي عن قدوم فصل الربيع ، وكل العرب يعرفون معنى فصل الربيع وأعياد ” شمّ النسيم ” خصوصا في مصر . وكان فريد بثقافته وفنه الرائع يضيف في كلّ مرة لهذه الأغنية توزيعا مختلفا ، وآلات موسيقيه تجاري العصر ، ويتفنّن بأدائها حتى أصبحت عبارة عن أوبريت غنائيه متكامله ، من حيث التنوّع الفنّي في شعرها الوصفي ، والصورة الجميله للربط بين الحب وتبدّل حال الطبيعه …
وظلّت هذه “التحفة الموسيقيه ” ملازمة لحفلات فريد الأطرش .
في ذكرى رحيل الموسيقار الكبير فريد الأطرش (مساء الخميس 26 ديسمبر 1974) نستمع معا لهذه الألحان العبقريه لموسيقار كبير ما زال محفورا بموسيقاه وأفلامه في ذاكرة الأجيال … والحفلة التي نستمع اليها جلس بين الجمهور الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب وهذا يتضح من ترحيب فريد الأطرش به بشكل مميز وخاص .
المقدّمه الموسيقيه
يمكن إعتبار المقدّمه الموسيقيه لأغنية الربيع ، مقطوعة موسيقيه منفصله تمهّد لمشهدية مسرحيه جميله ، وقد تبدّل حالها بين ما نسمعه في الأغنيه بأولى مراحل ظهورها في فيلم”عفريته هانم “( عام 1948 ) وبين ما نسمعه هنا في حفلة عامه بعد عدة عقود . في المقدّمه الموسيقيه تظهر بوضوح الآلات الكهربائيه مثل الغيتار الكهربائي والأورغ ، والتناغم بينهما . وكلنا يعرف أنه في مطلع السبعينات دخل الغيتار الكهربائي والأورغ الى أغلب الأغاني خصوصا في الغناء المسرحي .
بعد فاصل من الموسيقى القريب الى لحن هاديء وراقص على إيقاع يقارب الفالس بطابع شرقي ، تهدأ الموسيقى شيئا فشيئا ويبدأ فريد الأطرش بتقديم وصلة بديعه من العزف المنفرد على العود ، ونلاحظ بوضوح كيف يجنّن الجمهور بعزفه ومهارته وليونة إصبعه على أوتار العود . ومن المعروف أن فريد كان الفنان الوحيد الذي يقدّم وصلة عزف منفرد في كل حفلاته ، ويظلّ الجمهور يطالبه بالمزيد …. ويروي الأستاذ الراحل جورج ابراهيم الخوري ، أن الجمهور كان يصفّق عندما يُدخل عامل المسرح الكرسي التي سيجلس عليها فريد ، ثم يصفّق بحرارة كبيرة للعود عندما يضعه العامل الى جانب الكرسي ، وعندما يدخل فريد يصاب الجمهور بحالة هستيريه تستمر لدقائق طويله … وهذا ما لم يكن يحصل مع أي مطرب آخر على الإطلاق …
كوبليه الربيع
” آدي الربيع عاد من تاني ، والبدر هللّت أنوارو ، وفين حبيبي اللي رماني من جنّة الحبّ لنارو” … هنا يمكن أن نتصور أن أم كلثوم لم تكن لتقبل بعبارة ” … اللي رماني من جنّة الحب لنارو ” … يدخل فريد بالغناء بعد تسليم طويل من الأورغ الشرقي … فيبدأ بالغناء بصوت رخيم على مقام الكرد ، وهو المقام الذي طبع عدد كبير من أغانيه وأغاني عبد الحليم حافظ .. وهو أيضا المقام الأقرب للعاطفه في أغاني الحب والمشاعر. بإيقاع بطيء نسبيا خصوصا بالمقارنه مع اللحن في الفيلم ، يطرّب فريد بشكل جميل جدا في تصوير الربيع الذي يأتي حزينا وهو يتحسّر على الحبيب خصوصا عندما يقول ” أيام رضاه يا زماني هاتها وخد عمري ، واللي رعيتو فاتني وشغل فكري … ” ، وعند ” كان النسيم غنوه … يدخل صوت الكورال في نغمة أوبراليه بعد كل بيت قصير ،( كان النسيم غنوه … آه آه آه …. النيل يغنيها آه آه آه …وميّتو الحلوه آه آه آه… تفضل تعيش فيها … ) لينتقل الى شكل آخر في اللحن عند ” وموجو الهادي كان عودو .. “منتقلا نقلة ذكيه وحرفيه واضحه الى مقام البياتي بشكل تطريبي رائع ، مع تسليمات قصيره من ضربات موحّده بأقواس الكمنجات على الأوتار … ويقفل “عند أنا وهو ما فيش غيرنا ” مع تطريب وقفة صعبه لا يؤديها الأ مطرب قدير …
كوبليه الصيف
بمنتهى الحزن والأسف والعتاب يغني فريد ” لمين بتضحك يا صيف ، لياليك وأيامك … كان لي في عهدك أليف عاهدني قدّامك ..” والمقام الأنسب للحزن والحنين هو مقام الصبا ، وهو فعلا ما عمل عليه الموسيقار الكبير ، فقد دخل بالصبا ، على أنين الناي الحزين … وكمنجات متماسكه وناعمه … وعندما يصل الى ” من يوم ما فاتني وراح ، شدو البلابل نواح … هنا فالس جميل يحبه فريد ويتفنن فيه فيلاعبه ليصبح راقصا على الشرقي الخالص ثم ينتقل عن ” والورد لون الجراح … ” الى التطريب والتشريق الجميل ، والغناء الفالت ، فيحوّل اللحن الى موال يستعرض فيه قدراته الصوتيه ، وبمنتهى الإنسجام يذهب ويعود ويبدأ بوصلة من الليالي على مقام البياتي الجميل، ويبدأ فريد المطرب يظهر حرفية فريد الملحّن ،فيصل ومعه الجمهور الى حالة من النشوة والطرب التي لا يمكن أن يصل اليها غيره من المطربين … مع بعض الإضافات واللعب على مختلف المقامات الموسيقيه ،حيث يصل الى مقاربة نغمة الموال البغدادي في وصلته ليضيف ” الورد لون الجراح … يا قلبي … ” … لا ننسى أن محمد الوهاب حاضر ، ويجب أن يستعرض فريد كل مواهبه وقدراته في التنقّل على مختلف المقامات ، وبدا واضحا أن في باله مواويل عبد الوهاب في حفلته الشهيره عندما غنّى ” كلّ ده كان ليه ” وأبدع في مواويله فيها خصوصا عند ( غاب عني بقالو يومين … إلخ .. ) …
كوبليه الخريف
فالس بكل مواصفات الفالس ، مقدّمة الخريف الموسيقيه ، حتى يحسب السامع أنه يراقص حبيبته في غابة مليئة بأوراق الخريف اليابسه ، وعلى نفس اللحن مع آهات الكورال يغني “مرّ الخريف بعدو ، دبّل زهور الغرام … والدنيا من بعدو هوان ويأس وآلام … ، وتبدو واضحا ضربات الإيقاع التي ترافق لحن الفالس وهو ينساب بلطف وهدوء . ونلاحظ كيف كتب الشناوي الكلام بأبيات قصيره … لا القلب ينسى هواه … ولا حبيبي يرحمني … وكل ما قول آه … يزيد في ظلمو ويؤلمني ….
كوبيله الشتاء
لم تكن المقدمه الموسيقيه لهذا الكوبليه موجوده في اللحن الأصلي ، ولا في الأغنيه في فيلم ” عفريته هانم ” ، لكن فريد أضافه لاحقا كلاما ولحنا …. ففي التقديم أضاف فريد ” وآدي الشتا ، يا طول لياليه ، عللي فاتو حبيبو ، يناجي طيفو ويناديه ويشكي للكون تعذيبو .. ” يؤدي فريد هذا الكلام على وقع ” تريبيلو ” الكمنجات ( أي ضجيج تصدره الآلات الوتريه مجتمعه لإعطاء جو خاص يوحي بالتوتّر ورعد الشتاء ) … ثم يدخل في أهزوجة موسيقيه على مقام البيات تجعل السامع يرقص دون أن يشعر ، ويتضح هنا أن فريد لم يضع اللحن في مكان مناسب جدا ، لأن الموسيقى هنا توحي بالفرح ، في حين يدخل بعدها في موال يقول ” يا ليل يا بدر يا نسمه يا طير يا أغصان …. هاتولي م الحبيب كلمه تواسي العاشق الحيران … ” فريد يناشد كل مكونات الطبيعه ، الليل البدر النسمه الطير والأغصان … أن يأتوه بكلمه تواسي العاشق الحيران … والغناء يأتي بموال من الجواب ليصل الى جواب الجواب ، ليؤكّد ويتأكّد أن الصوت عبارة عن مناداة وليس مجرد طلب ومناشده .”…وغاب عني ، لا كلّمني ، ولا قال أيمتى رح اشوفو ، وأقول يمكن حيرحمني ويبعت في الربيع طيفو … ” من جواب يظهر الشوق ليعود ويقفل فريد الغناء بحزن شديد ، ويتسلّم الكلام من بدايته … و” أدي الربيع عاد من تاني …. ” .
أغنية بمنتهى الإبداع والتصوير الدرامي لحالات نفسيه وصورة للفصول عندما تتشابه بألوان الحزن والفرح الإنساني …. فريد الأطرش ، موسيقار مبدع ، لا يمكن أن يتكرّر في عالم الموسيقى الشرقيه ، لا كملحّن ، ولا كمطرب صاحب خصوصية جميله في الأداء …

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى