اخبار الفنكتب جمال فيَاض

قراءة موسيقية في قصيدة “حلم” لطيفة، للموسبقار طلال والشاعر حسين السيّد

بقلم : د. جمال فياض

“حلم” لطيفه مع الموسيقار طلال … وشعر من نوادر حسين السيد
عبد الوهاب إكتفى منه ببيتين من الشعر، وطلال لحّن له قصيدة كاملة.
التنوّع الموسيقي، والتحدّي الصعب، طلال يتحدّى بالطرب!
لطيفة من حيث لم نسمعها سابقاً … إنها طبقة الشجن

بقلم: د. جمال فيّاض

فعلها الموسيقار طلال، ونبش من كل آثار الشاعر الغنائي الكبير حسين السيّد نادرة من نوادره بالشعر الفصيح، وأخرجها الى النور. حسين السيّد لم يقدّم للغناء أي قصيدة بالفصحى، باستثناء بيتين كانا مطلع أغنية لحنها وغناها الموسيقار محمد عبد الوهاب، في أغنية “كل أخ عربي أخي، شرف دمي وجواري، فكفاحنا وحّده نبي، كان أبَ الأحرارِ” ثم يتابع بالعامية المصرية “… دافع عن أهلك وخواتك …”.
لكن الموسيقار طلال، نبش القصيدة المخبأة، ووضعنا هنا أمام حكاية وقصة ومناجاة. كتبها الشاعر لحبيبته في دار الخلود، وهو يناجي طيفها بحلم اللقاء وعودة مستحيلة الى الحياة. هذا القصيد، أشبه بالمونولوج، يرويه الشاعر ويصف حالته المتألمة في استعادة طيف ولقاء ربما هو حلم، ولن يكون أكثر من حلم. حكاية حلم يرويها الشاعر بقصيدة سردية، وهو الذي كتب حكايات في الغناء، أبرزها “ساكن قصادي” لنجاة الصغيرة، وفيها حكاية الجار الحبيب الذي تزوج في غفلة من عين الحبيبة التي كتمت هواه، حتى “صحيت على صوت فرح، وبصيت من الشباك، زينه وتهاني وناس كتير دايرين هنا وهناك…”. وهو الذي كتب أيضاً “فاتت جنبنا” لعبد الحليم حافظ وحكاية الحلوة التي “ضحكت لنا، وأعرف منين أنها قصداني أنا ومش هو … ”
هذه المرّة، حلم حسين السيّد كان وجعاً، وأمانيه مستحيلة، وبالعربية الفصحى. وكأنها نوع من التأكيد أن الموسيقار طلال أتى بما لم يأتِ به أحد قبله.
ماذا يقول هذا الشعر الجميل، بل ما هو هذا الحلم؟
حسين السيد الذي كتب “في يوم وليلة” و”بفكّر في اللي ناسيني وبنسى اللي فاكرني” والحبيب المجهول” والكثير من الأغاني التي تصف حالة فيها حب وغرابة وفلسفة وما ورائية في مكان ما … كتب هذه المرّة وبالفصحى يقول:

أقبل الليل فحيّاه المساء
شاحب الأضواء مسدولَ الضياء
واستوى شبحٌ على عرش الفضاء
يُعلِم الدنيا بأن الليل جاء
ومضى يوم وولّى
وانقضى عمرٌ من الزمنِ
وهفا قلبي وحنّ ودعا روحي الى الشجنِ
فتراءى لي على الأفقِ البعيد
طائراً ينساب من دنيا الخلود
إنها روح حبيبي
هزّها شدو نحيبي
يا خاطري طِر نحوها
واذكر لها أني وحيد
فلعلها تحنو على قلبي
فيحيا من جديد…

أقبل الليل … فحيّاه المساء..

أيها الروح تعالي أقبلي إني هنا
كل ما في الكون نامت روحه إلا أنا

تعالي نهجرَ الدنيا ونغدو عالم الأبدِ
ونبني للهوى وطناً بعيداً في ربي الخًلدِ
نجنّد فيه أرواحاً مطهّرة من الحسدِ
فينعم كل مشتاق ويسعد كل ذي وجدِ
تلك أمنيتي فهل يصفو زماني
أم تراه الوجد شقّته الأماني
أم تراني شاعراً حلمٌ أتاني
لضحى الليل فغنّاه لساني

لا أنا لست بشاعر
لا وما قلبي بحائر
إنها روح حبيبي
هزها شدو نحيبي
يا خاطري طِر نحوها
واذكر لها أني وحيد
فلعلها تحنو على قلبي
فيحيا من جديد
أقبل الليل … فحيّاه المساء..

حتى هنا، تكلمنا عن الشاعر والكلمات والقصيدة، لكن ماذا لو استمعنا لموسيقى طلال؟
وغناء لطيفة؟ وتوزيع يحي الموجي؟
كل هذا العمل بإشراف خالد أبو منذر، الذي صارت خبرته بتنفيذ الأعمال الموسيقية الكبيرة، تشهد له في كل عمل أكثر من سابقه.
فلنستمع بعناية للموسيقى التي وضعها الموسيقار طلال، لكلمات صعبة، والتعامل معها ليس سهلاً.
وتريات كثيفة تنساب بعذوبة وجمال من النغمة الأولى، قبل أن تنقلب على النغمة للإيقاع الشرقي الجميل، والذي يشدّ السامع قبل أن يملّ ويعتقد أنه ذاهب الى موسيقى كلاسيكية. كان يحي الموجي كعادته، عذباً وجميلاً وكله إحساس، هو الذي طالما أمتعنا بوترياته ولعبته الجميلة معها.
لا يطيل طلال الموسيقى ليدخل صلب الغناء، فتأتي نبرة لطيفة الجميلة، من طبقة متوسطة فيها شجن وشجن، على مقام الرست. لم نتعوّد كثيراً على هذه الطبقة من صوت لطيفة، حتى نكاد نعتقد أن طلال إكتشف بصوتها مكاناً كان خافياً عليها وعلى كل من لحّن لها من قبل. تدخل لطيفة بالغناء، وفي روح الغناء حزن خفيف وكأنها واقفة على شرفة في ظلمة وعتمة، وتغنّي لليل والمساء. صحيح أن أحمد رامي كتب ذات يوم “أقبل الليل يا حبيبي وناداني حنيني..” لكن حسين السيّد يقول “أقبل الليل فحيّاه المساء..” يعني نوع من التسليم بين المساء والليل … ومع هذا الإنتقال، تلاعب النغمة المشاعر، وتغني لطيفة بإحساس جميل، وكأنها تمهّد موسيقياً لمفاجأة تنتظرها…
عندما يردّد الكورال الجملية اللحنية، ينتتقل الى طبقة أخرى، وكأنه يغني على الطريقة الغربية، ويتسلّم الغناء من لطيفة مينور، فيعيدها ماجور.
عندما تعود لطيفة لتحكي لنا ماذا تراءى لها، تدخل في حالة شجن عالية، “أنها روح حبيبي … هزّها شدو نحيبي” على مقام الرست ثم يعرّج على “السوزناك” عند “يا خاطري طر نحوها…” فيغلب على الأداء الحزن والوجع، ثم تستعيد الإيقاع وكأنها فرحة خجولة بالحالة التي ظهرت عليها. تصوير موسيقي جميل، يفرض على السامع أن يشاهدها بخياله وكأنها بالصوت والصورة .
تنهي لطيفة المشهد، ويسندها الكورال بجمال وهيبة، ثم تنتقل الى “أيها الروح تعالي..” غناء ومناجاة، وأمنيات، ويدخل طلال من باب مقام إسمه “النوى أثر” المشتق من النهاوند، ويتداخل مع مقام ” الشاهيناز” الذي يسميه الموسيقيون “نوى أثر الحجاز” . مضبوطة على الإيقاعات التي توحي بالفرحة المترددة، وهي وجدت ضالتها.
عند تلك أمنيتي … يصل طلال الى الذروة اللحنية الجميلة، عندما يتحوّل النغم الى فالس ناعم رشيق لكنه مليء بالأحلام والحنين. شيء فيه من مدرسة الموسيقار الراحل حليم الرومي، كما من نغمات أشتهر فيها الموسيقار الراحل فريد الأطرش. عجيب طلال في تلاعبه بالنغمات في هذا المقطع. “لا أنا لست بشاعر …”. هنا يتلاعب طلال بالموسيقى بحب كبير ودفء تترجمه لطيفة بذكاء شديد، فقد دخل طلال بلحنه الى العجم ثم انقلب الى “النكريز”، وهو شيء من الحجاز يخرج منه في مكان آخر، ليعود الى الرست. ثم يتحوّل المعنى الى حقيقة فيها فرح وسعادة. قبل أن تعود لتستعيد الشجن فتعود الى الى “أقبل الليل… فحيّاه المساء” وكأنها صحوة من حلم جميل.
في هذه القصيدة، موسيقى وتوزيع وغناء وشعر جميل، وعمل متكامل المواصفات. في قصيدة “حلم – أقبل الليل” هذه، تنوّع موسيقي ذكي جداً، لم يستعرض طلال علينا شطارته بالتنقّل بين المقامات، لكنه أتانا بالسهل الممتنع، وهو هنا يكرّس شخصيته كملحن متمرّس، لكنه لا يصعّب علينا السمع. بعدما قدّم الكثير من الأغاني الجميلة، والمتنوعة النغمات والإيقاعات. ويعود ليذكرنا أنه هو من لحّن القصائد الدسمة، وليس فقط من لحّن الأغاني الخفيفة والشعبية. والقصائد هنا، عنيت بها لنزار قباني، والتي كان أبرزها قصيدة ” القرار ” للشاعر الراحل نزار قبّاني التي غناها فنان العرب محمد عبده ضمن ألبومه “رماد المصابيح” مع الموسيقار طلال. وطلال هو الذي لحّن قصيدة طلال حيدر “متى يأتي المساء” للسيدة ماجدة الرومي. والكثير من الشعر الثمين لكبار شعراء الفصحى . وهنا يتابع الموسيقار الجميل والمتمرّس والخبير، إبهارنا بأعمال لم يعد أي ملحّن قادراً على دخول ساحتها، لأنها ستكون نوعاً من التحدّي الصعب.
طلال، مرة أخرى، يحفر في الصعب، ويصرّ على إعادتنا الى الطرب، والشجن، والجمال الموسيقي الذي تشتاقه الأذن… أذن السمّيعة الحقيقيين.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى