اخبار الفنكتب جمال فيَاض

كتب جمال فيّاض، في “وهران” عرفت سرّ فاروق الفيشاوي ..

كتب جمال فيّاض:

مؤلم أن تصحو على مثل هذا الخبر! مات فاروق الفيشاوي…
وعدنا أنه سيقاوم السرطان ويعامله معاملة “الصداع”، ويبدو أن الخبيث استغلّ طيبة الرجل النبيل، في تساهله بالتعامل معه، فقتله على حين غفلة. وعَدَنا فاروق أنه سيكون معنا في مهرجانات سينمائية قادمة، لكن الله شاء، وما شاء فَعَل.
لن أتذكّر هنا أعمال فاروق الفيشاوي، وتاريخه الفني، وأفلامه التي أكّد في أغلبها أنه ممثل كبير وقدير. ولن أعدّد مآثره كممثل وكشخصية عامة، وكنجم سينما مصري له مواقفه في الفن والسياسة والإجتماعيات، وله نجاحاته في مختلف مجالاته التي عمل فيها وأبلى حسناً، وله صفحاته البيضاء، وصفحات فيها الكثير من اللبس. سأترك كل هذا للزملاء المختصّين، و الذين سيوسعوه شرحاً وتقييماً، وهو اليوم بين يديّ الديّان العادل. سأحكي فقط عن تلك السهرة الطويلة، التي جمعتنا في مدينة “وهران” الجزائرية على هامش مهرجان السينما في دورته التاسعة. فقد جمعنا المهرجان من كل بلاد الوطن العربي الكبير، لنلتقي على السينما العربية، وأفلامها. وفي المساء كانت تجمعنا في بهو الفندق سهرة فيها ما فيها من الطرافة، والودّ والظرف. كنا في المساء وبعد عودتنا من عروض الأفلام والسهرات التي تدعونا إليها إدارة المهرجان، نكمل سهرتنا في البهو، نتسامر ونغني ولا نترك أمراً إلا ونتحدث فيه وعنه. وكان الطبيعي أن يحضر بيننا نحن الزملاء من مختلف البلاد العربية، نجوم المهرجان المدعوين إما للتكريم، وإما للمشاركة بعروض أفلامهم. لليلتين متتاليتين، كان فاروق الفيشاوي يحضر ويأخذ مكانه بيننا. يجلس ينصت بإهتمام لكل ما نقوله، وبعد قليل يجد في ما يسمعه، شيئاً ليدلي برأيه فيه، أو بما يعرفه عن الذي أتينا على ذكره. كان الفنان المصري الشاب الممثل آسر ياسين، يجلس معنا، ينصت للأستاذ بإعجاب واضح. عندما أتينا على ذكر الشعر الغزلي وجمال شعر العصور الماضية في التعبير، أسمعنا فاروق الفيشاوي قصيدة من العصر الجاهلي، يحفظها كلها دون أي خطأ، فألقاها بطريقته الخاصة والمميزة، حتى استبد بنا الطرب، فصرخنا معاً وصفّقنا للإلقاء الجميل، والذاكرة المتوقّدة. والطريف أن الفنان الشاب آسر ياسين، وهو الذي كان يجلس منصتاً ومشاركاً، يحرّضه ويذكّره بقصائد أخرى يلقيها. كان آسر ينظر إليه بإعجاب كبير، ولم يزعج آسر أن يكون في حضرة الأستاذ، الذي جذب الأنظار إليه، آسر ياسين النجم الصاعد والناجح، والذي من المفروض أن يستحوذ على انتباه الحاضرين. كان يجلس بيننا يبدي إعجابه كما لو كان مجرّد معجب. عندما تحدّثنا عن العروبة، والتفكّك العربي بين الدول العربية الشقيقة وانقسام الشعب العربي، أسهب فاروق الفيشاوي في الحديث عن القومية العربية، وعن الناصرية، وعن المدّ الناصري والعروبي في مرحلة شهدت أعلى مراحل التضامن العربي، وأبدى حماسه للوحدة العربية، وإيمانه بأنها لا بد آتية ولو بعد قرن من الزمان. عندما تحدّثنا في الغناء والموسيقى، وأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب، راح يسمعنا قصائد غناها عبد الوهاب وغنتها أم كلثوم. وعندما ألقى بعض الأبيات، سحرنا وأطربنا. لم يترك فلسفة ولا موضوعاً سياسياً أو إجتمعياً إلا وخاض فيه وأجاد. وعن ذكرياته مع المخرجين الذي عمل معهم، حكى وأسهب. حتى عندما قام أحد الشبان الجزائريين، وأمسك غيتاره وراح يغنّي، كانت طريقة فاروق الفشياوي بالإستماع، مختلفة، وطريقته بالتعبير عن الإعجاب مختلفة ومثيرة للفضول. من الطبيعي أن بين الحاضرين كانت مجموعة من السيدات والشابات، وكانت طريقته في محادثتهن، فيها من السحر واللطف ما يجعلك تنظر إلى سرّ هذه الشخصية، التي تجذب محدّثها بشكل غريب. لم يتعامل معهن على أساس السن ولا الشكل، فقط كان يحدثهنّ، وكأنه بطل فيلم فيه الجاذبية التي طلب منه المخرج أن يكون عليها.
أخبرته، أني عندما التقيته يوماً في بيروت وكنت في بداياتي الصحفية، وكان هو في بداياته الفنية، جاء الى بيروت لتصوير فيلم “عذاب الحبّ”، مع المطرب الصاعد عماد عبد الحليم. يومها ذهبت الى فريق الفيلم في فندق “رويال غاردن” في بيروت، وبعدما أجرينا حوارات مع أبطال الفيلم، قلت لزميلي تعال نتحدّث لهذا الممثل، ويومها قال لي زميلي، يا أخي أنت تجلس مع مديحه كامل، وعماد عبد الحليم وصلاح نظمي، وتريد أن تحاور ممثلاً ما زال في بداياته ولا يعرفه أحد؟ قلت لفاروق، لكني أجبت زميلي ، مش يمكن يصير نجم مشهور، وساعتها نندم على عدم تصويره؟ ضحك فاروق من قلبه، وتوجّه الى آسر ياسين، وقال “إسمع يا آسر…” ثم طلب مني أن أعيد ما قلت ليسمعه آسر ياسين.
ونحن نفترق بعد ليلة سمر جميلة، همست لفاروق الفيشاوي “الآن عرفت سرّك، ولماذا كلّما عرفتك إمرأة وقعت في غرامك أيها الشرّير…”. ضحك من قلبه، وما زالت وستظلّ ضحكته تلعلع في ذاكرتي …
رحم الله فاروق الفيشاوي … الموت حقّ، وما أوجع هذا الحق!

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى