كتب جمال فيَاض

كتب د. جمال فيّاض : جوليا في صور … فليسمع العالم!

كتب جمال فيّاض:

أحيت جوليا حفلاً غنائياً كبيراً في الصيف الماضي، على مسرح بُني خصيصاً في ساحة قلعة مدينة صور الجنوبية. يومها أتينا من كل لبنان للشهادة على لحظة تاريخية في الغناء العربي، تصنعها سيدة بدأت من خطّ غنائي، صنعته خصيصاً في مرحلة من تاريخ لبنان الحديث. يومها لم نعرف كيف نعبّر بالكلام المناسب للتعبير عن الإبهار والدهشة العظيمة أمام ما سمعنا وشاهدنا. خرجنا من الحفل، وعلامات الذهول مقيمة في العقل والقلب والعين. ظلّت الإنطباعات عصيّة على الوصف والتقييم لأيام بل لأسابيع، الى أن أقامت في الذاكرة إقامة مريحة غير قابلة للنسيان أو المحو. وبعد شهور قليلة، وقبل أن تتسرّب الى القلوب والذاكرة أشياءٌ أُخَر، قامت شاشة الـ”أم تي في” اللبنانية بعرض هذه الحفلة المهرجان، مساء يوم أحد، كنّا قد رجعنا الى منازلنا بعد عطلة نهاية أسبوع طويلة. وجلسنا نشاهد ما صنعت جوليا وزياد بطرس في تلك الليلة التي ما برحت تحفر فينا وبعمق، تفاصيل لم تسبقها تفاصيل. غنّت جوليا مرّة أخرى، وسمعنا وشاهدنا مرّة أخرى. ولم نستطع من جديد أن نستوعب ما هذا الذي نشاهد ونسمع. بعد عملية توضيب وتحضير وتفصيل، إستعدنا اللحظة، العصيّة على النسيان مرّة أخرى. لم تكن سهرة تلفزيونية عابرة، كما السهرات، ولا كان مهرجاناً لفنانة كبيرة، كما المهرجانات. لقد قدّمت لنا جوليا بإشراف وتحضير وتنسيق وإعداد زياد بطرس، ما لم يعد ممكناً أن ينافسنا فيه أحد. لقد أثبت اللبنانيون في هذا الذي شاهدناه، أنهم أولاً، ولا ثاني لهم في مثل ما أتت به جوليا. لم يعد من مكان لأي فنان آخر، أن يبهر بمثل هذا الإبهار. من المحيط الى الخليج، لم يستطع أي فنان عربي أن يقوم بما يقوم به اللبنانيون، من هذا الإنتاج العالمي المواصفات. غير مسموح لأي قاريء أن يتهمني بالمبالغة، إلا إذا شاهد هذا المهرجان بنفسه، وقيّمه بالحيادية التامّة، لا بالعصبية والمواقف الموضوعة سلفاً في عقله وباله. في الإحتفال الأكثر كمالاً في العالم. فرقة قادها المايسترو هاروت فازيليان بمنتهى الدقّة والروعة، فيها من الموسيقيين المحترفين ما يكفي ويفيض، من لبنان ومن خارج لبنان. مضافاً إليهم مجموعة من “المؤثّرات البشرية” بعرض يرافق كل أغنية بلوحة تعبيرية مضافة. هل نحكي عن الصوت والصورة؟ وعن التصميم الهندسي للمسرح؟ وعن المؤثّرات البصرية على الشاشة الكبيرة خلف المسرح والمشهد العام؟ هل نحكي عن الضبط الإيقاعي للحركة المسرحية لكل الواقفين والجالسين خلف الفنانة الكبيرة، من موسيقيين وكورال ومقدمي اللوحات الإستعراضية التي تعبّر بدقة لا متناهية عن كل حركة موسيقية أو صوتية أو شعرية من الكلام المُغنّى؟ أم نحكي لكم عن جوليا المليئة بالحبّ والتواضع والوفاء؟ لوالديها أو شقيقها زياد الفنان القدير، وزوجها الياس بوصعب، الرجل الذي ترك في السياسة أجمل أثر وما زال، رغم كل ما تشوّهه السياسة في من احترفها وعمل بها.
هذا حدث، يباهي به صانعوه كل العالم، عربياً كان أم غربياً. هذا عمل فنّي، لا يقلّ عن الأعمال العالمية بالمستوى وحِرفية التنفيذ قيد أنملة. عملية التصوير والإخراج التلفزيوني التي قادها المخرج باسم كريستو، لا تقلّ طرباً عن الموسيقى والغناء. رصد كريستو كل حركة، كل إنفعال، كلّ صورة وتعبير، بل كل دمعة تأثّـر خرجت من عين، سواء عين جوليا أم عين أحد أو إحدى الجالسين والجالسات في المكان الهائل. والجمهور الحاضر، هل أحلى منه، وهو بمنتهى الرقيّ والعظمة يسمع ويشاهد وينفعل برقيّ مثالي؟ كما تغنّوا يكون جمهوركم، هكذا هو وطن جوليا وجمهورها العظيم.
هنا، على أرض شهدت تاريخاً فينيقيا حضارياً عظيماً، ثم تاريخياً نضالياً أعظم، تحت إحتلال عثمانيّ ثم فرنسيّ ثم صهيونيّ، وتحرّر منهم بأثمان باهظة عظيمة، وبجبروت عظيم، أعاد اللبنانيون لمدينتهم العظيمة حرّيتها وطـُهرها. ثمّ أتت جوليا لتوقّع على هذا التحرير الطاهر المبارك. بصوتها تترك جوليا بصمة أعظم وأكبر من اللوحات الرخامية. وبألوان أجمل من الأرجوان، وبحبر من دماء الشهداء، الذين لم تميّز شهادتهم يوماً بين فئة دم لدين أو طائفة أو مذهب. وقّعت جولياً هنا شهادة، صادقت عليها الحناجر مجتمعة، بأن لبنان هو كلّنا، وكان الإستفتاء العظيم، أن كلنا للوطن للعلى للعلم، ملء عين الزمن، سيظلّ صوت جوليا وأغانيها فضاء وحدة وطن وشعب، مهما اختلفت الرؤى أو وجهات النظر….
جوليا، ما أروعنا موحدين تحت راية الفكرة التي يحملها صوتك، ليسلّمها من جيل الى جيل. “كلّنا انتصرنا، شاء من شاء، وأبى من أبى”. فليسمع العالم!

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى