اسرار وكواليس

لطفي البحري يكتب … هكذا ودعت بليغ حمدي!

أحدهم استدرجه ليتحدث عن الأوضاع العامة للبلد ثم تبين أنه كان يسجل له دون علمه!
أخذنى قلمى إلى الورق, ورقات بيضاء ناصعة, تدعونى إليها لأكتب عنه: عن بليغ , عن العبقريّ , عن « بلبل « , أو باختصار شديد, عن « حبيبى « , وهذا الوصف الذى لم يكن يفارق لسان بليغ الذى شيّد صرحا إنسانيّا و فنّيّا على أساس واحد , هو «الحبّ «… أليس هو الذى لحّن وأبدع فى «حب إيه»؟ كتب وتغنّى وتجلّى فى محراب الحبّ , الحبّ بروعته ولوعته وجنونه وطفوليّته وخيانته وغدره وهجره وعناده ودلاله.

……………………………………………………..

التقيته أوّل مرّة بتونس. كنت طفلا لم أبلغ من عمرى الرّابعة عشرة , فى أواخر السّتّينيات,كان يرافق كوكب الشّرق أم كلثوم فى زيارتها إلى تونس. كنت نجم برامج الأطفال بالإذاعة التّونسيّة , فاختارونى لتقديم باقة الورد « للسّتّ « لدى وصولها إلى فندق شهير بالعاصمة , وفى ذات الصّباح , ومنذ تلك اللحظة جمعنا القدر, لأُصبح الصّديق وليُصبح هو الأخ والأستاذ والأب الرّوحي, وباستمرار العشرة , كنت كثيرا ما ينتابنى شعور بأنّه ابنى , وإنّنى أحيانا كثيرة أعامله معاملة الأب لطفل بوهيمى فوضوى, «مجنون» , وأعنى جنون المبدع الفنّان العبقرى , الفلتة… هكذا تواصلت عشرة العمر إلى آخر نفس فى حياته. وأنا أكتب بليغ حمدى, تجدنى لا أحبّذ إحساس الاحتفال بذكرى رحيله, لأنّنى أحتفل به كلّ يوم, أذكره كلّ يوم, أذكر مشوارا طويلا جمعنى به, مشوار امتزج فيه الفنّ بالإبداع, بالضّحكة والابتسامة والفرح والدّموع والذّكريات الصّعبة , والذّكريات البديعة… رافقته دون شكّ, فى سنوات المحنة , خمس سنوات من الغربة , أو كما كانت تحلو له تسميتها « سنوات التّرحال».

كنت أسجّل أكبر عدد ممكن من حلقات برنامجى التّليفزيونى فى تلك الفترة «وجوه تحت الأضواء « حتّى أكون إلى جانبه أكبر وقت ممكن , وأنطلق معه فى « التّرحال» بين باريس و ليبيا والجزائر والمغرب وأثينا… وكثيرا ما كنّا نحطّ الرّحال بتونس , فى بيتى, حيثُ وُلدت الرّوائع, مثل « بودّعك « , وأغانى ألبوم « وحشتينى يا مصر» , ياوابور يا مروّح بلدى» أو« زيّ الزّمن». ذات يوم من أيّام باريس, وكما هو معتاد ,لا تخلو جلساتنا من حبّ مصر والاشتياق لمصر ولوعة الغربة… والغريب أنّ « بلبل» كان يتحدّث فى الموضوع بالإبتسامة , بالنّكتة أحيانا كثيرة.وتلك هى طريقته لإخفاء أحزانه, يحتمى وراء النّكتة, لأنّه يكره لحظات الضّعف حيث يتركنى ويختفى. ويومها , فعلا , تركنى واختفى. فى نفس اليوم, وكان ذلك فى ساعة مُتأخّرة من الليل, سمعته يناديني: « انت فين ياابني, كفاية نوم بقي, تعالى…».

هرعت إليه قبل أن ينطق عباراته الشّهيرة «انت فين ارحمنى». لقيته جالسا بالصّالون مُحتضنا عوده. صمتٌ غريب خيّم على المكان, وسرعان ما تحوّل الصّمت إلى حالة من التّجلّى… انطلق بلبل يغنّى بصوت حزين مُبهج فى آن واحد:

رغم البعد عنّك عمرى ما حانسى إنّك أمّي

وإنّى ابنك كلّى حتّة منّك

من ترابك أنا واحد من ولادك

سافر شوقو والغربة يغنّى لانتصارك

غنوة فيها باقلّك وحشتينى يا مصر , أنا فداكى يا مصر…

فى تلك اللحظة, اغرورقت عيناه دموعا , وكان من النّادر جدّا أن تلمح دموع بليغ… أخذته فى حضنى وبكينا بكاء مُرّا , موجعا…

ثمّ هدأت المشاعر وسألته: قلت: ( بحياء) دى رسالة لمصر,لاحتفالات 6 اكتوبر؟

قال: (مبتسما ) أيوة , عندك مانع؟ ههههه…

قلت: وفكّرت مين حيغنّيها؟

قال: يا عفاف راضى , يا على الحجّار , يا هانى شاكر…

قلت: يعنى نتحرّك؟

قال: أيوة حبيبى, جهّز نفسك نسافر نسجّل. وأنا بافكّر أسجّل ألبوم, أربع اغان, أسجّلها بصوتى, عندك: وحشتينى يا مصر, زيّ الزّمن , سكوته عذاب , و يا وابور يا مروّح بلدى…

قلت: وحتسمّى الألبوم إيه؟

قال: ياابنى ارحمنى, ماانت لسّة قايللى… هى رسالة لمصر, رسالة من الغربة , عندك مانع؟ هههههههه…..

وتحرّكت , بل تحرّكنا… وتمّ تسجيل الألبوم , بتمويل ليبى… لا يهمّ التّفاصيل , لأنّ الذى يهمّ وأنا أروى هذه القصّة, هو الرّسالة نفسها… رسالة واحد من أبناء مصر, ابن يخاطب أمّه ويدعوها إليه, أن تأخذه إليها لتحتضنه ويحتضنها, وبذلك يطويان صفحات من الألم والجفاء والحسرة والظّلم والدّموع, يدعوها ليفتح معها صفحة جديدة للحبّ والسّماح والتّسامح… كلاهما حمّال الأسيّة وكلاهما ينبض حُيّا وعطفا وسماحا…

…………………………….

الغربة قتلت بليغ , طوال خمس سنوات التّرحال, كنت أرى بليغ يموت ببطئ, يوما بعد يوم , الغربة قتلت الجسد ولكنّها لم تقتل الرّوح , روح طالما حملت أوجاعا و آلاما وظلّت رغم ذلك حيّة تنبض حُبّا ووفاء وإخلاصا لمصر الأمّ… مصر التى ظلمته… وأتراجع لأقول: بليغ , لم تظلمه مصر بقدر ما ظلمه عدد من أبناء مصر, أولئك الذين «ياما» سندهم وشجّعهم وقدّمهم للنّاس فى أروع الأعمال… وآخرون, كنت أراهم يوميّا فى بيته بميدان سفنكس المهندسين… انقلبوا عليه , هجروه , لم يُكلّف أحد من هؤلاء نفسه برفع سمّاعة التّليفون ( قبل عصر الموبايل ) والسّؤال عنه ولو مجاملة , لأنّه كان فى أمسّ الحاجة لكلمة حلوة ترفع من معنويّاته وتضمّد أشلاء نفسيّته المُبعثرة. ومنهم من زار بليغ بباريس , تونس , ليبيا , حيثُ استقبلهم وفتح لهم مكان إقامته وأغدق عليهم بما كان يمتلكه من مال , وهذا كرمه المعهود الذى لا يختلف عليه اثنان. ونفس هؤلاء , حال عودتهم إلى القاهرة, ينهالون عليه ضربا مُبرّحا بكلمات من نوعية: « حالته بتصعب عالكافر» , «يستاهل , هو اللى جابو لنفسو» , « والله صعب عليّا فإدّيتو شويّة فلوس»….

وأذكر أحدهم , اسم معروف فى الوسط الفنّى , حضر إلى بليغ فى بيتى بتونس, واستدرجه فى الحديث عن الرّئيس المصرى آنذاك , وعن القضاء المصرى… وباندفاعه وعفويّته المعروفة تحدّث بليغ , وشتم بطريقته وخفّة دمه.. وانتهى الأمر عند هذا الحدّ… ولكن… ما راعنا إلاّ أنّ هذا الشّخص قد سجّل حديث بليغ , وفور عودته إلى القاهرة, سلّم التّسجيل إلى من يهمّهم الأمر. نفس هذا الشّخص شاهدتّه يحلّ ضيفا على برامج تليفزيونيّة ويتحدّث بحرقة عن بليغ حبيبه وصديقه وأستاذه…. أقول: إن لم تستح فافعل ما شئت.

وعلم بليغ بموضوع الوشاية والتّسجيل الصّوتى , فأصابته حالة نفسيّة صعبة دامت حوالى أسبوع , التزم الصّمت , وهى تلك الحالة النّفسيّة التى أفرزت رائعة « زيّ الزّمن «:

زيّ الزّمن طبعو الخيانة, زيّ الزّمن خان الأمانة

وقالو أهل زمان ياما قالو , فى الأمثال علّى خانو

من لوه ثمن لا يُؤتمن , صدق الزمان وأهل زمان , أهو دى إلّى كان…

زى الزمن على سهوة يغدر, زى الزمن عمرو ما يستر

ولا عمرو صان عشرة لصاحب , ولا لوه عزيز ولا لوه فى واجب

ولا لوه دموع لو حبّ يوم يبكى يلاقيها ولا ذكريات تعتزّ بيه ويعتزّ بيها

زيّ الزّمن مالوهشى غالى زيّ الزّمن مالرّحمة خالى….

هكذا بكى بليغ , لكنّه لم يبك دموعا , بكى بكلمات موجعة ولحن صارخ , فجاءت الأغنية أكثر وقعا من الدّموع العاديّة , أغنية, هى الأخرى رسالة لأولئك الذين انقلبوا عليه وغدروا به… تماما مثل الزّمن.

وعاد بليغ إلى مصر, احتضنها واحتضنته , لكنّ الحضن لم يدُم طويلا. تمكّن المرض من بليغ واشتدّ عليه , مرض خبيث عاناه بنفس القوّة والصّبر , والابتسامة , التى واجه بها العواصف وآلام الغربة وغدر الزّمن واهل الزّمن. نُقل إلى باريس فتحوّلتُ إليه من تونس لأكون معه فى التّرحال , ولم أكن أتخيّل أنّه التّرحالُ الأخير. واقتربت ساعة الرّحيل الحقيقى فى باريس , حيث وافته المنيّة… قبل ذلك بيوم واحد, طلب منّى أن أحضر إليه العود:قلت: حاضر, بكرة إن شاء الله أجيبلك العود

قال: لا يا حبيبى انزل وهات لى العود فورا.

وجئته بالعود , بعد الحصول على تصريح من إدارة المستشفى, وكانت آخر مرّة يمسك فيها العود ويغنّى. كم تمنّيتُ ألاّ أكون شاهدا على هذا الموقف , غنّى بليغ بنفس الإحساس , لكنّ الصّوت لم يكن الصّوت , صوت بليغ بعمق أدائه وحشرجته. تحرّكتُ لأغادر الغرفة لأنّنى لم أستطع السّيطرة على دموعى وهى تسبقنى , فأمسك بيدى فى صمت… وغنّى ما استطاعه هو من إحدى روائعه « أنا وانت ظلمنا الحبّ «… أردتّ أن أسأله لماذا هذه الأغنية تحديدا… وبقى السّؤال عالقا فى حنجرتى إلى يومنا هذا… وفى صمت, أشار لى بأخذ العود من حضنه, وغاب فى نوم عميق… غادرت المستشفى على أن أعود إلى بليغ فى اليوم الموالى كالعادة… وفى اليوم التالى رحل بليغ , رحل دون رجعة هذه المرّة , رحل بأوجاعه وحسرته وآلامه وفرحه… فتبادرت إلى ذهنى كلمات قالها لى حين كنت أسجّل معه آخر حوار تليفزيونى , سألته:

قلت: تقول إيه فى الموت؟ وخصوصا موت الفنّان؟

قال: ( دون تفكير) يا لطفى , الفنّان ما يموتش , الفنّان بيسافر, الفنّان موته سفر!

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى