اخبار الفن

نادر الأتات بعد بعلبك، ليس كما قبلها !!

التصوير : عاطف الأسدي


كتب جمال فياض – بعلبك

من خارج برنامج المهرجانات الفنية في قلعة بعلبك، دخلت سيدة اسمها نبيلة وهبي على الخط، وقرّرت أن يكون لها مهرجانها هنا… هكذا، وبجرأة الأسود، انتزعت رئيسة جمعية “ريشة ونغم بعلبك” ليلة من خارج الجدول تحت شعار “فرح بعلبك”. أخذت موعدها على المدرج الكبير، في المكان الذي شهد عشرات الليالي الإبداعية اللبنانية والعربية والعالمية، وقالت: هنا أريد أن أضع صخرتي، وعند معابد الرومان القديمة سأثبّت موعدي… وهكذا كان!

وجّهت السيدة نبيلة لنا الدعوة للحضور، ثم قامت بترقية الدعوة إلى مستوى الطلب والتمنّي، بأن أكون من يقدّم هذه الليلة التاريخية غير المألوفة… وهكذا كان. ووقفت أمام جمهور من كل لبنان أتى ليشهد عودة الحياة، بعدما أقفلت المهرجانات موسمها هنا، ودخلنا في شهر أيلول، شهر السكون والرجوع إلى زمن الصمت في القلعة… وقفت وقلت للبعلبكيين: أنا منكم اليوم، وأحمل إليكم تحية الجنوب وكل لبنان… وأحيي فيكم قدرتكم المستمرة على تلقّي الصعاب، لتحيلوها إلى قوة وقدرة مضاعفة… ولم يفتني أن أوجّه التحية للكبير عميد شعراء الزمان طلال حيدر، وهو الذي تجاوز التسعين على الهوية، وما زال في داخله ابن الثلاثين يعيش ويكتب ويفكّر، ويهمس لي: “جسمي تسعيني، هو حرّ، وأنا لا أسأله، فأنا ثلاثيني وهذا شأني”…

على مسرح معبد “باخوس”، سيقف لأول مرة نجم بدأ مشواره منذ سنوات، وارتفعت قيمته مع كل خطوة من الخطوات، حتى جاء الموعد… موعد وقوف ابن بعلبك على مسرح قلعة بعلبك. وها هو اليوم نادر الأتات، الذي رأيناه منذ البدايات، ورعيناه بالمحبّة، وطوّقناه بالإعجاب، يقف واثقاً وقوياً على المسرح الجبّار. هنا، حيث ارتجفت أقدام كبار، وصفّقت أكف الجماهير، وعلت أصوات المعجبين بالآلاف… سيقف الفتى الجميل، المتين الأسس والمتمكّن من قدراته، ليغنّي ويدبك عند عتبة باخوس، فيجنّن روما وآلهتها حتى ينهكها الندم، فتتمنى لو أنها لم تكن مجداً، سينتزعه منها تراث بعلبك، ودبكتها، وشبابها من المطربين جيلاً بعد جيل، حتى نصل إلى جيل نادر الأتات…

ماذا سيغنّي؟ وهل يحلو الغناء إلا لتراث بعلبك وتاريخ بعلبك، والمعابد التي تتحدى التاريخ والزلازل والعواصف لآلاف السنين، وما زالت كما هي في مكانها، وتزداد جمالاً وإبهاراً وغيرة منا نحن أصحاب هذه الأرض؟ غنّى نادر أغنيته الخاصة التي أهداها إياه شاعر الزمان طلال حيدر، ولحّنها له الفنان الدكتور هشام بولس… فكانت أجمل افتتاحية، أجمع الحاضرون على أنها أصل الحكاية في هذه الليلة البعلبكية. ورافقت نادر فرقة موسيقية جميلة ومحترفة فيها كل مواصفات الإتقان، حتى حسبناها موسيقى آتية من مكان لا نراه… الفرقة التي قادها الفنان ربيع حسن كانت بمنتهى الاحتراف، هي فرقة أساتذة كبار، لفتت انتباه كل السميعة…

سهرة مجنونة، مبهرة، ساحرة، جنّ المكان بمن حضروا، والنتيجة أننا وصلنا إلى الخلاصة الأساس… نادر الأتات قبل بعلبك، وقبل هذا اليوم، شيء… وبعد هذا اليوم، شيء آخر!

قبل نادر، أطلّ نجم لبناني عالمي فقدم عرضاً جميلاً ومختلفاً وخارجاً على المألوف… فقد حضر ملحم ملحم، ومعه سحره وطقوسه المسرحية والموسيقية التي ذكّرتنا بكل العروض العالمية التي أتت هنا وقدّمت فروض الطاعة للهياكل العظيمة، وإذا بملحم يعيد اختصارها بأجمل ما فيها، ويقدّم لنا الخلاصة: نحن سنكون الحكاية وكلّ الحكاية عند هذا المعبد، وموسيقانا سنعيد توليفها، ورقصاتنا سنعيد تصميمها، وملابسنا سنعيد تصميمها، وليتفضّل العالم ويتعلّم منا كل الجديد…

أدار ملحم موسيقاه بنفسه، وغنّى بنفسه، وقدّم عرضه مع فرقته الاستعراضية الجميلة، وأغنية بالفينيقية وموسيقى تاريخية مختلفة، فأدهش وأبهر… دعمته إضاءة رائعة، وهندسة صوت بديعة، وخطوات مصمّمة لتكون غير كل الخطوات… ملحم ملحم عالمي بكل معنى الكلمة، وسيكون له شأنه قريباً، فقط هي مرحلة زمنية لا بد منها قبل البركان الكبير…

بعد ملحم، أطلت الفنانة عازفة الكمان والراقصة الاستعراضية حنين، وما أجمل حنين وما قدّمته مع فرقة “سوان دانس” المكوّنة من صبايا كلهن مواهب وجمال. العرض الذي قدّمته حنين كان أشبه بجولة في الوطن العربي، ومن كل مكان أتت بأغنية ونغمة، فقدّمت عرضاً أقل ما يقال فيه إنه مهرجان من جمال وفن… حنين غيّرت مفهوم الرقص والعروض الفنية، وكان العرض يقدّر مكان تقديمه، فأتى بالشكل المناسب للمكان المناسب…

لم ننتظر طويلاً، حتى أطلّ الفنان حليم كرم، مطرب شاب يحفظ تراثه بشكل جميل، وغنّى جملة من أغاني الكبار، وكأنه يعيد على مسامع المعابد والهياكل صوت الغناء الذي ألفوه وحفظوه واستأنسوا به من زمان. حليم في صوته الكثير من الدفء، ويعرف جيداً كيف يلعب على مساحة صوته فيثير الشجن ساعة يشاء، ويثير فينا الحماس ساعة يريد… وقد عرّج على كل الغناء وأنواعه، فاستحضر الرحابنة وملحم بركات وزكي ناصيف ووديع الصافي وصباح… وكل الكبار في وصلة واحدة. أطال، لكنه أبلى بلاء حسناً، وهذا الأهم!

هناك جندي مجهول آخر خلف هذا المهرجان، غير رئيسته نبيلة وهبي، إنه علي الططري، صاحب شركة “فينيكس”، الذي أشرف ورتّب ونظّم وصمّم كل هذا العرض بلا أي غلطة… لقد شاهدنا عرضاً جميلاً ومتقناً بصفر أخطاء… وهذه نقطة تحسب لهذا الشاب الفنان.

وخلف التنظيم اللوجستي كان الأستاذ الدكتور حسين جمّال، الذي تحمّل الكثير من الضيوف حتى أخرج التنظيم والاستقبال بأفضل ما يمكن.

بهذا العرض، وهذه الليلة، يمكن للمسرح الكبير أن يقفل أبوابه حتى العام القادم بانتظار موسمه الجديد، ويمكن أن يكمئن الى أنه ما زال لا يستقبل الى الذين استحقوه مكاناً تكبر فيه الأسماء وتسجّل نفسها على لوحة الزمن ….

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى