موعد مع الرئيس …

كتب جمال فياض
ذات مساء، تلقيت اتصالاً من رقم مجهول، صوت يسلّم، وأشعر أني أعرفه جيداً… مساء الخير يا أستاذ جمال، أنا إميل لحود!
من؟ فخامة الرئيس؟؟ ضحكة لطيفة كلها تواضع، ويكمل: أخذت رقمك من صديق مشترك، وحبيت أتصل وأتعرف عليك وأقول لك إنك شخص… وقال كلاماً جميلاً أخجل تواضعي!
ما هذه المفاجأة؟ رئيس لبنان الأسبق يتصل بي ليقول لي هذا الكلام الجميل؟ فرحت، وأول من خطر ببالي في اللحظة كان والدي رحمه الله، الذي علّق لأول مرة صورة لرئيس الجمهورية في بيتنا، وكانت صورة إميل لحود. يومها قلت له: ولماذا هذه الحفاوة المستجدة برئيس لم تبدأ ولايته بعد؟ قال: بل تاريخه كقائد للجيش سبقه إلى الرئاسة، هذا الرجل نظيف وشريف وسجله الوطني عظيم، ولن يتغيّر، وسمعة والده العماد جميل لحود سبقته. اقتنعت بالفكرة، لأن إميل لحود منذ تولى قيادة الجيش اللبناني، كان رجلاً رائعاً، ولم أُظهر إعجابي به يوماً لأني لا أحب مجاملة القيادات والشخصيات الكبيرة، وأكتفي بالمراقبة والتعليق إذا لزم الأمر…
اتصال فخامة الرئيس كان عزيزاً جداً، فأنا المعجب به وبوطنيته ونزاهته، لم أتعرّف عليه يوماً لأخبره برأيي فيه. إنها فرصة أتت دون أن أتوقعها…
في العادة، وحسب الطبيعة والأصول، يكون اتصال التعارف لدقائق، لكن الحديث الأول هنا كان مختلفاً، فالرجل في قلبه وعقله الكثير مما يمكن أن نسمعه ونتعلمه ونفهمه. طال السلام والكلام، وتخطت المكالمة الساعة الكاملة، الحديث جرّ الحديث، ورحت أسأله ويجيب، حتى حسبتها مقابلة صحفية طويلة تمنيتها لو كانت مسجلة بالصوت والصورة.
بعد هذه المكالمة، صرنا أصدقاء، نتواصل باستمرار، ملتزماً بمبدئي الذي أفضّله: “لا أسترسل بصداقة من هم في السلطة حتى يغادروها”، فإن أبلوا حسناً سعيت لمعرفتهم وصداقتهم، وإن تركوا فساداً لا أعرفهم ولا أتقرب منهم…
هذا الرجل العظيم، دخل حياتي بنفسه، هل تصدقون؟ اعتبرته هدية القدر.. لا تهمني خلافاته السياسية قبل وخلال وبعد الحكم، ما يهمني أنه ترك سيرة نظيفة، اجتهد بعض الإعلام وما زال ليشوّهها ويتهمه بما يسيء لتاريخه، ولم ألمس إثباتاً ملموساً واحداً لكل ما قيل…
في كل مرة، هو الذي يبادر ويتصل، ولم أسمح لنفسي يوماً أن أتصل به إلا عبر رسائل صوتية أو مكتوبة بالواتساب، حرصاً على أن أبقى صديقاً خفيفاً. وما زلت أحرص على تهنئته بالمناسبات الوطنية، مثل عيد الجيش وعيد الاستقلال، وخصوصاً عيد التحرير، وهو واحد من أبرز أبطاله. وكلما تلقيت منه اتصالاً، كنت أطيل الحوار لساعة وأكثر، وأستمتع بأخبار وأسرار وكواليس الحكم، وتفاصيل كنا نرى ونسمع غلافها الخارجي، لكن تبين أن خلفياتها كانت مختلفة تماماً عن الذي كنا نسمعه ونعرفه.
ظلّ لمرات يقول لي: متى سأتعرف عليك شخصياً؟ فأقول: ساعة تشاء يا فخامة الرئيس، أنا حاضر… لم يكن ممكناً أبداً أن أزوره في “زمن الكورونا”، لكن بعد مرور الأزمة، كان يقول لي: ساعة تريد، تفضل، بيتي مفتوح للأصدقاء أمثالك…
وآخر مرة حسمها، وقال لي: يوم الأربعاء الساعة الرابعة، أنتظرك… هل يناسبك؟ قلت: تأمر وأتشرف.
يوم الأربعاء لم أذهب إلى مكتبي، قررت أن زيارة الرئيس العماد يوم خاص، سأزوره لنصف ساعة وأتعرف على هذه الشخصية الجميلة التي أحببتها منذ سمعت عنها.
وصلت في الموعد، يقيم في شقة عادية، لكنها عالية جداً، والمشهد المطل على بحر بيروت جميل جداً وساحر جداً. يقول إن المكان الظاهر من شقته، قضى فيه كل مرحلة شبابه، وهذه الشقة التي أقيم فيها كانت مطعماً، كنت كلما زرته أتمنى لو كان بيتي، وتشاء الظروف أن يقفل المطعم ويُعرض للبيع فاشتريته وسكنت فيه…
كنت وعدت نفسي أن أزوره وأبقى لنصف ساعة فقط، فالرجل قد يكون راغباً أن أزوره زيارة مجاملة للتعارف.
وبدل النصف ساعة، تجاوزت الزيارة الأربع ساعات… فالحديث طال وطال حتى سرقنا الوقت.
رجل ثمانيني، لكنه شاب بكل معنى الكلمة، فقد بدا من اللحظة الأولى قائداً بكل المواصفات.. إنه رجل كبير وعارف، شديد البأس ولطيف الحضور. حاضر الذاكرة وكأنه يقرأ من كتاب مذكراته، لا يترك تفصيلاً إلا يذكره بالأسماء والأماكن والتواريخ. لا يتردد في ذكر خيباته ببعض الأشخاص، ولا ينكر بعض المواقف الصلبة التي ربما لم تكن تحظى بتأييد عام… صارم وهو القائد، لا يحب الفساد والفاسدين والمنافقين.
استرسل بالحديث، وتناقشنا ببعض الأمور التي كانت في حينه عليها لبس وشبهات والتباس كبير. في كل شرح ستفهم أكثر أن الحكم شيء، والمراقبة من بعيد شيء آخر… يروي حكايات صغيرة، لها مدلولات كبيرة، عن رشاوى عرضتها عليه دول وسفارات وشخصيات، وحقائب مال تدفقت عليه من (جهات وأسماء ذكرها) وهو رفضها، وما زال الشهود عليها أحياء يرزقون. وكيف رفض حقيبة بمليون دولار مخصصة له شخصياً وليس للجيش، وصلته عندما كان قائداً للجيش من جهة عربية، ورفضها، طالباً تحويلها لخزانة الجيش، ولم يكن الأمر سهلاً… فأخذها شخص أعلى منه رتبة في السلطة وقال له: “إنت مش وجه مصاري، هات الشنطة أنا باخدهم”، وسلّم الحقيبة لمرافقه ومشى…
يروي عندما تسلم سدة الرئاسة، كم المبالغ التي عرضتها عليه سفارات باعتبار أنها مخصصات رئاسية شخصية معتادة… وكيف جاءه الأمير العربي برفقة وزير لبناني، مقدماً له شيكاً مصرفياً بقيمة سبعة ملايين دولار، وعندما استفزته الحركة، قال الأمير: هذا تبرع مني لبناء مستشفى أو أي مؤسسة صحية تراها مناسبة. ولما سأله: ولماذا لا تعطي هذا المبلغ لوزير الصحة؟ قال الأمير: لأني سبق وقدمت مبلغاً مماثلاً للوزير، فأخذه ولم يفعل شيئاً… (سبق ذكر هذه القصة في لقاء تلفزيوني)…
يومها، يقول الرئيس، اقترحت على الأمير أن ينشئ مؤسسة خيرية يقدم من خلالها ما يريده للمساعدة… وهكذا كان!
يروي بالتفصيل كيف عارض التعرّض للمقاومين في الجنوب، وهو كان قائد الجيش اللبناني، وكيف تلقى اتصالات من شخصيات لبنانية وسورية وأممية عالية، وكيف أصرّ على عدم التنفيذ لأنه “لا أقبل بالتعرض لمقاومين للعدو المحتل، ونحن كنا تحت الاحتلال”… ووضعت استقالتي مقابل هذا الأمر المرفوض… يومها وصلت الحكاية للرئيس الراحل حافظ الأسد، فأعجب به… ثم يردف قائلاً: التقيت الرئيس المرحوم حافظ الأسد مرتين فقط، مرة عندما كنت قائداً للجيش ومرة عندما كنت رئيساً للجمهورية، والبعض يظن أني كنت “رايح جايي ع الشام”، وهو أمر غير صحيح…
عندما التقيت الرئيس الأسد وكنت قائداً للجيش، اكتشفت أنه يعرف تاريخ والدي ويعرفه منذ كان تلميذاً في كلية حمص العسكرية… وسرد لي حكايات ومواقف حصلت مع والدي لا يعرفها أحد غيرنا في العائلة…
ثم يحكي كيف بلّغوه أنه سيكون رئيساً، وأن الإجماع كان عليه، فقابله بشروط حرية عمله وليس رئيساً مسيّراً… وكيف بدأ الجميع يخطب وده، لكنه لم يكن يسمع من أحد، ولا غرّته الرئاسة.
كان بإمكانه المهادنة والسير مع الموجة لتحقيق مصالحه المادية كما أغلب من وصلوا الى السلطة، لكن أبى أن يكسر مباديء النزاهة التي يحملها.
أُخبره برواية حكاها لي ذات يوم المدعي العام المالي أحمد تقي الدين، عن موضوع المحرقة في برج حمود، وأنه طلب منه أن يسجن الوزير فؤاد السنيورة بتهمة فساد، فينفي الرواية ويقول إنه كلام غير صحيح، وأنا لم أتدخل في القضاء، ثم يحكي الحكاية بشكل مختلف…
وكيف كان الرئيس الحريري يختلف معه باستمرار لأنه كان يريد خصخصة الكهرباء والاتصالات، وأنا كنت أرى أننا يمكننا أن نصحح وضع هذه المؤسسات، لا أن نبيعها بمبالغ تافهة.
قلت: وماذا ترى الآن يا فخامة الرئيس؟ قال: الوضع خطر جداً… يصر على أن المقاومة ضرورة للحماية، وسلاحها ضمانة إلى جانب الجيش، والحل الداخلي يكون بتطبيق كل بنود الطائف، وخصوصاً بند قانون الانتخابات ومجلس الشيوخ. يصر أن الطائف هو الحل والخلاص، وبدونه لن تستقيم حالتنا…
قلت: لكن الطائف جرد الرئيس من صلاحياته، وأنت حكمت في بعض الأمور ليس بسلطتك كرئيس، بل بالضغط السوري. قال: أبداً.. السوريون لم يتدخلوا بي، وكنت أرفض أي تدخل من غازي كنعان، وكنت السبب في مغادرته لبنان.
اختلفت كثيراً مع الرئيس رفيق الحريري، حتى استحالت العشرة بينكما.
قال: اختلفنا بوجهات النظر، لكنه كان لطيفاً وودوداً معي، ولم نصل إلى حد القطيعة كما صوّرها البعض. مساء السبت، وقبل اغتياله بيومين، التقيت بابنه سعد في فقرا، وكان معه الأمير عبد العزيز بن فهد. يومها عرّفني عليه الأمير ولم أكن أعرفه، وكان اللقاء ودياً، واتفقنا أن يلبيا دعوتي للغداء يوم الإثنين، واغتيل الشهيد رفيق الحريري يوم الإثنين…
وعن الطائف، ماذا تقول؟ يبدو أنك من المؤيدين الشرسين لتطبيق الطائف.
يقول: الطائف هو الحل، ولو طبقناه كما هو لارتحنا جميعاً…
ذاكرة تثير الإعجاب، وشخصية كلها حيوية وشباب، يقرأ كثيراً، حوله عشرات الكتب، ويتابع أخبار العالم… ويأسف لما وصل إليه حال الشرق، وخصوصاً بلادنا العربية.