اخبار الفنكتب جمال فيَاض

كتب جمال فياض: عندما تصبح للدراما هيبة

عندما تصبح للدراما هيبة

كتب جمال فيّاض

هذه النقلة النوعية التي حصلت في الدراما اللبنانية، لا يمكن للمتابع أن يصدّق أنها صارت بهذا الإتقان وبهذه السرعة. ففي العقد الأخير قفزت صناعة الدراما في لبنان، قفزة عملاقة لا يمكن وصفها بكلمات أو بسطور. فقد استفادت الدراما اللبنانية من المواهب السورية المخضرمة وخبرتها عندما أجبرت الحرب على سورية صنّاع الدراما وأغلب الفنانين السوريين، على الخروج من حالة الركود الى لبنان، لتستوعب الدراما اللبنانية هذه المواهب وتضمّها الى حلقتها. فأنتجت الخبرة السورية، مع الروح اللبنانية المميزة بالذوق والخبرة بمتطلبات السوق الحديث، هذه الخلطة الممتازة. ففي لبنان توفّرت لهذه الأعمال الشروط الأساسية، مثل التمويل السخي والجريء على خوض المغامرات برأس مال ضخم، والمساحات الكبيرة من الحرّية في الطرح والمعالجة لمواضيع، قد تكون خاضعة في بلاد أخرى ومنها سورية، لبعض الشروط الدقيقة. وأتت النتائج نجاحات مشتركة كبيرة وصلت الى المستويات العالمية. وهذه المستويات، فرضتها عقلية المنتج، وشروط المنصات التي بدأت تبثّ الدراما والأفلام عالمياً بشروط جودة عالية.
وصلنا اليوم، الى مسلسل “الهيبة” الشهير في الجزء الأخير، وهنا بلغت الدراما المتقنة أعلى مراتبها وتصنيفها.
لم يكن ممكناً أبداً أن تمرّ الحلقات الأخيرة من مسلسل “الهيبة – جبل”، دون أن تترك انطباعاً لا تكفيه كلمة المبهر أو الرائع أو الممتاز. نحن هنا وصلنا الى مستوى من التمثيل والإخراج لم يعد ممكناً تصنيفه بأقل من المستويات والمعايير العالمية للسينما والتلفزيون.
نحتار بمن نبدأ الحديث، وعن أي ميزات نتكلّم. فالممثلين، كانوا من النوع المحترف والمخضرم، وكل واحد منهم أصبح مدرسة بحدّ ذاته. ناهيك عن الإخراج الذي عرف جيداً كيف يحرّك ممثليه، على نصّ كتبته ورشة من المحترفين (سامر نصر الله،طارق عبده،محمد الحمصي، يزن طربية، وسيم قزق )ومشاركة عصام بوخالد وسعيد سرحان)، فجاء مدروساً بكل تفاصيل وبحذافيره.
تيم حسن، وهو النجم الحماهيري الكبير دخل في شخصية جبل، حتى بات مستحيلاً أن تصدّق أنه مجرّد ممثل يؤدي دوره، وإذا كان لكل ممثل في مسلسل ما يسمى “الماستر سين” فإن تيم حسن في آخر مشهد من الحلقة الأخيرة، جلس ونظر الى والدته (منى واصف) نظرة جعلته يختصر لنا كل ما حصل في الأجزاء الخمسة بنظرة هائلة، بمشهد صامت لم يقل فيه أكثر نظرة أغرورقت فيها عينه بدمعة، أسدلت الستار على سيرة مشوار من الأحداث الهائلة. لم يكن تيم حسن الممثل، سوى كتلة من المشاعر المدموجة بشخصية محتارة بين الطيبة والشهامة، والرجولة، والفساد والشرّ والأنانية، وحبّ الزعامة والتمسّك بالزعامة. تحرّكه من بعيد، إنتماءت مختلفة، مرة لوالدته (منى واصف) ومرة لأصوله وجذوره العائلية (شيخ الجبل) ومرّة للناس الذين يحمل همومهم وكأنه رئيس دولة الخارجين النبلاء عن القانون. تيم هنا، غيره في كل الأماكن التي رأيناه فيها. وإذا كانت الوسامة سبب الدخول الى القلوب، فإن الممثل، تركها خارج المكان، وصوّر الشخصية بقوّة الممثل فقط. وسنجد صعوبة في متابعته في أعمال أخرى، عندما يخرج من عباءة “شيخ الجبل”. لكنه المحترف الذي سيعرف جيداً كيف يفعل!

منى واصف، لم تكن مجرّد إمرأة تمثّل الشخصية الطاغية على من حولها في مشاهد تتجمّع في العين والذاكرة، لتكون سحر الإعجاب والإبهار. منذ “هند بنت عُتبة” في فيلم “الرسالة” حتى “ناهد أم جبل شيخ الجبل”، لم تكن منى واصف إلا سيّدة مكانها. ولم تكن نظرتها إلا المنافس لكل الممثلين من حولها. كان يكفي أن تجلس أم جبل، وتضرب عصاها بالأرض، حتى نعدّل نحن جلستنا فوراً باستقامة أمام الشاشة دون أن نشعر. لجبروت الأداء تأثيره الطاغي وبقوّة.

هذه المرّة، كان عبد المنعم عمايري، النجم الكبير حاضراً، بدور تمّ تبسيطه حتى أعلى مستوى الإبداع. لم يجتهد العمايري كثيراً، ليتميّز، بل هو ترك البساطة أن تميّزه، وأن تجعله ممثلاً، كبيراً، وبدأء رهيب. ووصل ذروته في المشهد الأخير، عندما واجه لحظته الأخيرة، فقدّم “الماستر سين” الذي انتظرناه في كل الحلقات. عبد المنعم عمايري الرهيب، أجرم كثيراً في دوره، لكنه أجرم أكثر بالأداء السهل الممتنع. فسجّل نقطة جديدة في تاريخه الحافل بالإبداع.

عبدو شاهين، هل رأيتم شاهين كيف وقف وكأنه ممثل هوليوودي بامتياز؟ لم يكن شاهين على الورق إلا مجرّد شخصية متهوّرة، جعلها عبدو شاهين كتلة من التناقضات مجبولة بالغضب والطيبة والهدوء، وأحياناً الخبث والشرّ. منذ اكتشفناه، كان عبدو شاهين ممثلاً لا يحتاج لأكثر من وقفة أمام الكاميرا، لنراه نجماً وممثلاً قديراً ومؤثّراً. تكاد تظنّه يلعب شخصيته العنيفة في الحياة، وليس في “الهيبة”.
سعيد سرحان، هذا الممثل العتيق والخبير، إكتشفناه هنا، في الجزء الخامس تحديداً. في الدور المزدوج بين “علي وعبد الرزّاق”، ظهر وبان أن في شخصيته ممثلاً ليس فقط محترفاً ودارساً في معهد التمثيل، لكنه في الأعماق هو بئر من الكنوز التي أظهرها النصّ الذي شارك بكتابته، وصوّرتها لنا الكاميرا، التي سرقها علي وعبد الرزّاق من مخرجها وكل ممثليه. وكان واضحاً جداً، أن سعيد سرحان إجتهد كثيراً ليحجز مكانه على صفحات ما كتبه وسيكتبه النقاد عن الهيبة في الصحافة، أم الجمهور على مواقع التواصل الإجتماعي.

ناظم عيسى، الممثل الآتي من أعمال كثيرة، كانت معالم الخبرة في تاريخه الجميل، بحاجة لعكازه المستجدّ المساعد ليقول لنا بعد عمر ها أنذا. وبالفعل، بان ناظم عيسى الممثل القديرعلى حقيقته وبخبرته.
إيميه صيّاح، ممثلة شاطرة، لم يترك لها النص دوراً كبيراً، لكنها استطاعت أن تفرض نفسها كممثلة، بدون تكلّف أو تصنّع، ويبدو أننا أمام جيل جديد من الممثلات، التي تغلّف حضورهن البساطة دون الإعتماد على الجمال والماكياج الصارخ، والإغراء غير المبرّر. وهنا لا بد أن نوجّه لها التحية على هذه المصداقية في الأداء.

تعالوا الآن الى المخرج سامر البرقاوي. هذا الذي كدنا ننساه في العمل مع فريق كبير من النجوم، وبنصّ جميل ومحبوك، وكدنا نعتقد أنه إنما يصوّر هذا العمل بشطارة وحرفية، تستند الى كل الإتقان في النص وحرفية الممثلين، وجودة الإنتاج وإمكانياته الكبيرة. لكنه في الجزء الأخير، ظهر جليّاً، أنه مخرج كبير، وكبير جداً. وظهر أنه مخرج متمكّن من كل أدواته، ويجيد تماماً الإستفادة من كل ما بين يديه. من ممثلين محترفين، ونصّ جميل، وأماكن تصوير، وميزانية بلا شك كانت أكبر بكثير من الذي تعودنا عليه في الدراما العربية. سيرى المشاهد بوضوح كيف أدار سامر البرقاوي كاميراته في المعارك في الحلقتين الأخيرتين، بشطارة ومهارة وكيف أنتج جودة قلّ نظيرها في الدراما العربية.

يبدو واضحاً أن شركة الصباح “سيدرز آرت” تخطّت المستويات البسيطة بالإنتاج، وصارت في مكان آخر، وأشدّ إصراراً على أن الإنتاج الدرامي لا بد أن يكون بمستويات عالمية، وليست مجرّد تمثيليات وحكايات تستهين بعقل المشاهد. صار الإنتاج مهمة صعبة، لها شروطها، التي لا يمكن العودة بها الى الوراء. والأهم، أن لبنان اليوم في هذه الظروف الصعبة التي يتحدّث عنها الإعلام، ما زال في موضوع الدراماً أقوى وأكثر قوّة، وما زالت الأعمال الدرامية التي يتمّ تصويرها فيه، تحافظ على مستواها الرفيع، متغلّبة على كل الظروف والصعوبات. على أمل أن تستمر ولا تسوء الأوضاع لتفرض ما لا يتمناه لنا أحد.
قبل “الهيبة” كانت شروط جودة الدراما الناجحة في لبنان صعبة، وتتطلّب جهداً إستثنائياً. بعد “الهيبة” صارت الشروط أصعب والجهود مضاعفة، وسقفها أعلى بكثير. وأعتقد أن الشركة التركية التي إشترت حقوق “الفكرة والفورما” لتصوير “الهيبة بنسخة تركية، ستبذل جهداً لتكون على نفس المستوى. وفي الخلاصة أيضاً، تأكّدنا أكثر، أن التعاون المشترك اللبناني السوري، قدّم هذه التركيبة الناجحة، ولا بد ولا شك أنها ستستمرّ لتكون القوة الجبارة، التي تفرض نفسها بالجودة، وليس فقط بالظروف وواقع الحال.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى