اخبار الفنكتب جمال فيَاض

ليلة الطرب في “جي إم دينر كونسرت”… عودة إلى القرن الماضي، بسحره وطربه وأغانيه

Screenshot

كتب جمال فياض

أردت أن آخذ لنفسي جلسة طرب ممتعة، فلبّيت دعوة صديقي الفنان الموسيقي والملحن العزيز جان ماري رياشي، إلى حيث يُتقن لعبة تقديم الفن الجميل للسمّيعة على طبق من نوتات الإتقان. وإلى سهرة في “جي إم دينر” جلستُ في البلكونة المطلة على الصالة الفخمة، أستمع وأستمتع بسهرة لوحدي، لا أحد يكلّمني ولا أحد يأخذ مني لحظة السلطنة…
عند شرفة عالية، وفي موقع “استراتيجي” جداً، جلستُ وأصغيتُ إلى أحلى الموسيقى، وأحلى الغناء، وأروع عزف، وأبسط تخت موسيقي شرقي، لا كهربائيات ولا تقنيات ولا زخرفات خادعة.

سأعرّفكم أولاً، وعلى عكس المتعارف عليه، على الفرقة الموسيقية التي أمتعتني كما كل الحاضرين، بجودة ما مثلها جودة، وحرفية ما مثلها حرفية، وموسيقى ما مثلها موسيقى، وفنّ ما مثله فنّ، وسلطنة ما مثلها سلطنة…
تعالوا نسميهم ونحكي عنهم:

أولهم، هذا الفنان القدير الكبير الخبير المخضرم طارق الباشا، عازف الأكورديون الذي رافق كبار النجوم المطربين من الجيل الذهبي، حتى صارت أنامله جزءاً لا يتجزّأ من مفاتيح آلته البديعة… الأكورديون بين يدي طارق ليس آلة شهيق هواء وزفير موسيقى، بل هو روح تتماهى مع روح خاضنه، وتمتزج بينهما أنغام ما حصلت ولا كانت في مكان غير هنا. هذا طارق الباشا، الأستاذ والمعلّم والخبرة كلّها، والحبّ كلّه!!

مايك غنيمة على الكونترباص هو الركيزة، وهو الموجّه، وهو الفخامة والتفخيم، وهو الهيبة والرفعة والرزانة والركوز… يبدو جلياً أن مايك جعل آلته آلة السيطرة والتوجيه وقاعدة السير وخط العبور… محترف ومتمكّن وأستاذ. لا يحيد عن نوتته ربع نوتة، ولا يتوقف عن الحضور ربع نغمة. يمضي وعلى خطاه تمشي الفرقة كلها.

علي الخطيب على الرقّ، يشبه الساحر أو البهلوان بخفّة الترقيق والانضباط المثالي. يتلاعب الخطيب بإيقاعاته حتى تحسبه خرج عن خط الإيقاع، لكنه يفاجئك بأنها لم تقفز ولم تخرج، لكنها البراعة التي لا مثيل لها. يعمل علي بنصيحة محمد عبد الوهاب، كما الأخوين رحباني: لا يخجل الرقّ بصوته، بل عليه أن يكون حاضراً بقوّة وألا يغيب لحظة كي لا يغيب الإيقاع وتعمّ الفوضى… رقّ علي الخطيب سيّد مكانه، وضابط نغمته، وحاكم خطّ السير مهما تبدّلت وتنوّعت الاتجاهات. المرجعية كلها عند الرقّ، وسيّده في هذه الفرقة.

طبلة نادر مرقص لا تقلّ أهمية عن رقّ الخطيب. فإذا كان الرقّ للإيقاع وانضباطه مزخرفاً، فالطبلة ضابط من المراتب العليا، لا تترك لانضباطها مثقال ضربة، فلا “دُم” ولا “تكّ” لولاها، ولا انضباط بلاها. ونادر فنان وخبير، يعرف كيف يزن ضرباته ضربة بضربة، فلا يبالغ ولا يقصّر، بل يضع الإيقاع في الميزان والانضباط بدقة متناهية. أستاذ كبير هذا النادر، يحبّبك بالطبلة وهي المتوحشة الحضور إذا ما قورنت بالرقّ ورقّته.

كمان طوني جدعون، الوحيدة في هذه الفرقة الصغيرة، يجعلها كبيرة ويحوّلها إلى فرقة كبيرة، بل إلى أوركسترا من عشرات العازفين. طوني المخضرم الذي نعرفه كما زميله طارق الباشا، من زمان وفي كل زمان، يملأ فراغاً ما كان ممكناً تجاهله لو لم يكن هذا الجدعون الأستاذ في هذه الفرقة. الكمان حاضر ناعماً متى كان الغناء ناعماً، وصاخباً متى كان الغناء صاخباً، ومغناجاً متى كان الغناء غزلاً…

هل أحدثكم عن القانون؟ يقول جان ماري رياشي إنه اختار سام دعبول، العازف على القانون المصري، وهو الأكثر حدّة في الصوت من القانون التركي. وحده سام يعرف كيف يحترم أوتاره الأربعة والستين، فلا يستخرج منها إلا الطرب والشجن والسلطنة، ويداعب أوتاره وكأنه يدللها، فلا يقسو ولا يتهاون، بل يُخرج منها الصوت والطرب والذوق والروح الحلوة… سام هذا، مطرب بآلته وأنامله، وكأنه يغنّي.

فِرِد بجاني يجلس أمام البيانو، فيطوّعه ويسيطر عليه ويشرّقه، ليصبح واحداً من التخت الشرقي هذا، فينسينا أصله وفصله الغربي. لقد سيطر فِرِد على البيانو أزراراً سوداء وبيضاء، وأخرج منها نغمات شرقية زرافات ووحدانا… محترماً أصول الضيافة بين قوم ما تعوّدوا عليه كثيراً بينهم، لكنه تعوّدنا واعتدناه بسهولة!

تعالوا نستعرض معكم الغناء وأهل الغناء في السهرة “الطرباء” التي لا مثيل لها، إلا مساء كل اثنين في هذا المكان المسحور بالطرب.

تبدأ السهرة مع غريس دوري، صوت قوي ومتين ومتمكّن. استأثرت أولاً بالغناء الصعب، فلا تركت اللبناني بحاله، ولا استصعبت المصري بترحاله. وتنقّلت بنا بين المصري واللبناني حتى أسكرتنا من أول نغمة…

ثم ننتقل إلى الشاطر محمد جعفيل، المحترف الذي بسّط الطرب بصوته القوي حتى حسبناه يتسلّى بالغناء، وأشعرنا أن الموضوع أسهل مما نعتقد، لكن ما جاريناه في كلمة. فقد جلس على طبقة يتفرّد بها طرباً حتى استبدّ بنا الطرب…

روعة محمد جعفيل، أن يخلط عليك الأغاني ويتنقّل بها وبك حتى يدوّخك بصوته وحضوره وذكاء التنقّل بين الأغاني والمقامات…

ثم يختمها هذا الآتي من زمن الأبيض والأسود، زمن الطرب الذي ما نسيناه وما تركه الزمن… فراس عنداري، صوت مصمّم على مقاسات خاصة جداً، فهو في لحظة زكريا أحمد، وفي ثانية سيد مكاوي، وبعد دقائق يصبح عبد الحليم حافظ… وكل الغناء تحت السيطرة. فراس لا يختصر لك ما يغنيه، ولا يستقطع لنفسه “حلويات” المقاطع من الأغاني. هو يبدأ وينتهي ولا يظلم مقطعاً على حساب مقطع. نوع من الإخلاص والوفاء النادر للأغاني.

لا تشبع ولا تملّ من سهرة الاثنين هذه، التي لا مثيل لها في أي مكان في بيروت بل كل لبنان…

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى