هل هو “حب في شبه مدينة”؟ أم “شبه حب في مدينة”… اختصار لمدينة وحب ومجتمع وحياة..




كتب جمال فياض
على مسرح «المدينة» في شارع الحمراء، قُدِّمت مسرحية «حبّ في شبه مدينة»، العمل الذي يضيف محطة جديدة إلى التجارب المسرحية المعاصرة التي تبحث في الإنسان، وحدته، وأسئلته الوجودية داخل فضاء مديني متحوّل وملتبس.
مسرحية من بطلين شابين، في ساعة واحدة، يختصران زمناً وحالة وموقفاً وخيالاً وعتمة ونوراً وحباً وألماً وهوى ووجعاً وصرخات وعنفاً وكل ما يمكن أن تتخبط فيه الروح والعقل والمشاعر…
روى الحسامي تُذهِل بحيويتها وخفتها ورشاقة خطوتها المسرحية، حتى حسبناها طائراً بأجنحة لا بجناحين فقط… تكاد تقول: من هذه الجنّية الجميلة التي وصلت للتوّ من كوكب المستحيل واستقرّت على خشبة فسيحة، بلا عجقة ديكور ولا فزلكات إضاءة… تقفز، تركض، تهوي ثم تقوم لتطير، كأنها ريشة تداعبها رياح وعواصف وأعاصير من جنون. ممثلة من طراز لم يعرفه المسرح من قبل، ولا عرفناه نحن.
ثم يدخل علينا ذاك الشريك الممثل (ميران ملاعب) الآتي بموهبته الجميلة زاحفاً من عتمة وخوف… ويلتقيان نجماً ونجمة، ويبدأ الحوار المكتوب بعبثية مفهومة ومغرية…
ذاك الغناء والعود وصوت المغنّي الراوي (زياد الأحمديه) يضيف إلى الفضاء المقفل فوقنا الكثير من التأثير العاطفي، خصوصاً عندما يقول من شعر أحمد مطر:
يا شُرَفاءُ
هذهِ الأرضُ لنا
الزرعُ فوقَها لنا
والنِّفطُ تحتَها لنا
وكلُّ ما فيها بماضيها وآتيها لنا …
المسرحية من تأليف وكتابة حسن مخزوم، وهو نص يقوم على الحساسية الشعرية والبعد التأملي، حيث يتحوّل الحب إلى حالة إنسانية هشّة، تعيش على تخوم مدينة ليست مكتملة الملامح ولا واضحة الانتماء، مدينة تشبه الواقع بقدر ما تشبه الوهم. حبّ يتكوّن وينكسر وسط ضجيج الصمت، وتحت وطأة العزلة التي تفرضها الأمكنة والظروف.
تولّت لينا عسيران الإخراج والتصوّر العام، فاختارت مقاربة بصرية وجسدية تعتمد على الاختصار المبرَّر في العناصر، لكنها منحت الجسد والحركة مساحة للتعبير بقدر الكلمة. كما وقّعت عسيران السينوغرافيا، فجاء الفضاء المسرحي مفتوحاً، محايداً، قابلاً للتحوّل، يخدم الحالة الشعورية للنص ويواكب تقلّباته النفسية.
على الخشبة، قدّمت روى حسامي وميران ملاعب أداءً تمثيلياً اختلط فيه التفاعل الداخلي بالحركي أكثر منه بالتعبير المباشر، فبدت الشخصيات كأنها تعيش صراعها في الداخل، وتفصح عنه بالإيماءة والنبرة والوقفة قبل الكلام. أداء يراهن على الصدق والحدّ المتوازن من الانفعال، وإن كان في مكان ما كانت الإطالة أو المراوحة في لحظة معيّنة غير مبرَّرة…
الموسيقى التي ألّفها وعزفها زياد الأحمدية شكّلت عنصراً درامياً مكمّلاً، لا خلفية سمعية فحسب، بل شريكاً في بناء المزاج والجوّ العام، فيما تولّى شكري سويدي تحريك السينوغرافيا، مضيفاً ديناميكية بصرية خفيفة تحاكي تبدّل الحالات النفسية.
أما الإضاءة، التي صمّمتها أنطونيللا رزق، فجاءت في مكانها وتوقيتها المضبوط، بحرفية تعتمد على الظلال وتدرّجات الضوء، وتخدم فكرة «شبه المدينة» بين العتمة والانكشاف. وتولّى إنغريد زغبي التصوير، بينما حمل ملصق العرض المميّز توقيع آلان سمعان.
«حبّ في شبه مدينة» عرض مسرحي يراهن على الحسّ الفني الهادئ، ويخاطب جمهوراً يبحث عن تجربة فكرية وجمالية تبتعد عن الاستعراض وتقترب من الإنسان في أكثر لحظاته هشاشة. عمل يؤكّد مجدّداً حضور «مسرح المدينة» كمساحة حيوية لاحتضان التجارب المسرحية الجادّة في قلب بيروت الثقافي.
كل هذا الجهد الفردي لشباب لم يسألوا يوماً عن البدل، ولا عن وزارة ووزير ومسؤول داعم، ولا حتى مشجّع… هكذا هو الإبداع في لبنان: أن تعمل وتبدع، لأنك فرداً وجماعة مولودون بالإبداع!



