أضواء المدينة تنشر مقالاً، بقلم الآنسة أم كلثوم …
حينما أغني
كتبت الآنسة أم كلثوم
غنيتُ وأنا طفلة صغيرة لا أعرف من أمور الدنيا إلا ما يعرفه الأطفال. غنيتُ وأنا لا أشعر بما أقول، ولا أحس بحلاوة النغم فى فمي، ولا أعرف هزة الطرب فى قلبي، وكنت إذا صفق الناس عَجِبت، وسألت نفسي: لماذا يصفقون؟! وهكذا لا أستطيع أن أقول إننى عشقت الغناء طفلة، أو أن أدعى أننى كنت أردد القصائد والموشحات بدلًا من البكاء، لقد غنيت لـ«اللقمة» لا لـ«النغمة».
غنيت لأعيش، لا للفن ولا لإلهة الفن الجميل، وعندما كنت طفلة أغنى فى الأفراح كانت أمنيتى أن تحدث مشاجرة واحدة على الأقل بين المدعوين، أو بين أصحاب الفرح لأتفرج، وأستريح من عناء المغنى! والليلة المتعبة عندى هى التى تمر بسلام، فلا يحدث فيها ضرب، ولا يقع جري، ولا ترتفع فيها الكراسى فى الهواء، ولا تتكسر الفوانيس على رءوس المدعوين، ففى مثل تلك الليلة الهادئة كنت أضطر أن أكرر القصيدتين الوحيدتين اللتين كانتا كل محصولى من «الغناء» فى تلك الأيام! كنت أصعد إلى المسرح لا يهمنى شيء، ولا أبالى بشيء، ولا يخيفنى شيء.. وأى شيء يخيف طفلة صغيرة لا تعى ما تفعل، ولا تفهم كلمة واحدة مما تقول.
كبرتُ وبدأ حظى يكبر معي، وبدأتُ «تذوق الفن»، عند ذلك بدأتُ أتهيب المسرح، وأرهبه، وأخشاه، وأشعر كلما غنيت أننى مقبلة على امتحان رهيب، وأن المستمعين هم أولئك الممتحنون الذين لا يرحمون، ولا يتساهلون، ولا يقبلون عقد امتحان ملحق للراسبين، وقد يحدث أحيانًا أن أذهب إلى حفلة من الحفلات، وأنا على أتم الاستعداد لها «مزاج رائق، وصحة طيبة»، فلا أكاد أفتح فمى للغناء حتى أتمنى لو أخذوا منى كل ما أملك، وعتقونى لوجه الله.. ولا أغني، وفى بعض الليالي، قد تكون صحتى ليست على ما يرام، ومزاجى لا يصلح للغناء، وإنما أذهب لأداء واجب، فلا أكاد أفتح فمى حتى تترقرق دمعة فى عيني، وتظل حائرة، ثم لا ألبث أن أنسى الناس وأغنى لنفسي، وقد أفتح عينى وأنظر للجمهور ولكننى لا أراه! وأتصور المكان ليس فيه أحد سواي، لا أسمع أصوات التصفيق، ولا صيحات الاستحسان، فإذا كررت مقطعًا فإنما أكرره لأننى أريد ذلك، لا لأن صوتًا ارتفع يقول لي: «كمان».
فى مثل هذه اللحظات أغنى وأنا أحلم، وتصبح القطعة الغنائية قطعة من قلبي، فإذا قلت «سافر حبيبي» فإننى أتخيل أن لى حبيبًا، وأنه أسلمنى للألم والعذاب، وإذا أنشدت «غنى الربيع» أحسست أن الدنيا كلها ربيع يُغني: الطيور تغني، والأشجار تورق، والوجوه تبتسم، والنسيم يراقص الغصون على أنغام الطير، وأرى الورد نعسان حقًا، والكون يشاركنى فرحي، والجو «كل لحن بلون».. ثم أتلفت وأبحث عن الحبيب الذى تخيلته فلا أجده، وأشعر أنه غاب عن قلبى الحائر، وأناديه: «كلمني»! وأذكره بالماضى الذى أعيش فيه، وأقول له: «طمني»، وأسأله عن حال فؤاده. هل قسا وأنا صابرة؟ هل غضب وأنا راضية؟ ثم أنظر حولى فإذا أنا وحيدة حقًا، وإذا الأزهار جفت فوق الغصون، وإذا الشمس غابت من أفق الأحلام، وإذا الأرض صحراء جرداء لا فيها زرع ولا ماء، وفى بعض الليالى أنتهى من غنائى وكأننى أنتهى من حلم، فيوقظنى تصفيق الجمهور فى نهاية المقطوعة، فأحس بالرعدة فى جسمي، وأشعر شعور النائم حين يستيقظ بعد حلم رائع ويتمنى لو أنه لم يفتح عينيه، وعاش إلى الأبد فى ذلك الحلم الجميل! وهناك ليلة فى عمرى لا أنساها تختلف عن كل ليالى حياتي، ليلة أن غنيت فى النادى الأهلي، وكانت ليلة العيد، وأقبل الملك فاروق، مفاجأة.. أحسست عندئذ أن فى قلبى عيدًا سعيدًا، وأن فى قلبى موسيقى تعزف بأعذب الألحان، وأحسست فى الوقت نفسه برهبة، وخوف. وحِرتُ ماذا أغنى فى حضرة الملك؟! ورحت أغني.. ولم أشعر بشيء بعد ذلك، ولم أعرف أننى أجدت، ولم أعرف أننى فشلت. بعد ذلك بأيام كنت فى محطة الإذاعة، أسمع الشريط الذى سجلت عليه أغانى الحفلة، فأغمضت عيني، ورحت أسمع، ولم أتمالك نفسي، فوجدتنى أصيح: الله.. يا أم كلثوم!
“أخبار اليوم” 25 نوفمبر 1944