كتب جمال فيَاض

الماجدة في العلا …

كتب جمال فياض – العلا

هذه المرّة، كانت الماجدة في المملكة العربية السعودية. في “العلا”، فقد وجهّت “الهيئة الملكية في محافظة العلا” في المملكة العربية السعودية الدعوة للسيدة ماجدة الرومي، لتأتي الى حيث تاريخ يقيم منذ ألفين وحمسمائة سنة، لم يذكره أحد من قبل، قرّر أن يستقيظ، ويعيد الى الجمال المقيم فيه، بهاء الزمن الذي مرّ طويلاً وثقيلاً . هنا، نحت “الأنباط” في جوف الصخر متاحف عجز الزمن والسنوات والقرون عن محوها. ومن يستطيع أن يأتي إليها بوهج الشموس ليعيدها الى النور غير سيدة كبيرة من لبنان؟ من غير الماجدة التي تمثّل تاريخاً عمره ألوف مؤلّفة من من شواطيء فينيقيا، وجبال الأرز الأبيض؟ إذاً، فلتكن السيدة ذات العزيمة، تعلن بصوتها، وهامتها الرفيعة، وهيبة الحضور الكبير، أن الزمن سيعود للدوران، ودورة الحياة ستكون لها قيامة من سكينة الموت الطويل، في “العلا” وفي “مدائن صالح”، وفي الصحراء التي تريد أن تخضرّ وتستعيد الحياة من شمس اليباس. أزهرت شجرات النخيل، وأنتظرت صوت الماجدة لتثمر وتعطي، وتصبح دورة حياة كاملة مكمّلة.
وصلت سيدة الصوت من لبنان، وبحفاوة إستقبال الملكات استقبلوها. منذ داست قدمها مطار بيروت، بدأت دورة الترحيب. عند باب الطائرة في مطار الطيران الخاص، إستقبلها كابتن الطائرة السعودي، الأنيق الشكل والحلو اللسان، وراح يدبّج عبارات الترحيب بالسيدة التي في هذه اللحظة، صارت تمثّل لبنان بطوله وعرضه، وأرضه وسمائه. لم يختصر، ولم يرحّب ترحيب الواجب. هو أطال وقال وقال، غريب هذا الرجل اللطيف، من أين أتى بكلّ هذا الكلام العربي الحلو؟ دخلت السيدة على فريقها وفرقتها في الطائرة، ورحّبت بهم جميعاً فرداً فرداً. إطمأنّت أن الجميع مرتاح، وأعطت الإذن بالإقلاع على طائرة المملكة العربية السعودية الخاصة، لتنطلق في رحلة على مرمى تحية وسلام من بيروت.
وصلنا الى مطار العلا، ووصل واجبنا عند أهل الديار. الإستقبال الحار، فريق من المرحّبين من شخصيات رسمية، والمسؤولين عن البروتوكول. الى حيث الإستراحة، ثم الى صالة ضخمة بنيت فقط لاستقبال الضيفة من معها. في اليوم التالي بدأت التمارين الأخيرة على الأغاني التي ستشعّ بكلمات وألحان الكبار، وبصوت السيدة القديرة. عوض حليم الرومي، هو العين الساهرة من بعيد وقريب جداً، يتابع ولا تغفو عينه أبداً. لبنان بعلبكي، هو المايسترو الذي لا تخفى عليه نوتة، ولا تفلت منه نعمة. ومعه الساحر علي المذبوح ونايه المليء بخيايا حنين، فيه الكثير من رائحة الصحراء، واخضرار الوديان. والتركي أيطاش دوغان، أستاذ النغمة الذي طوّع أوتار القانون لتصبح شرقية عربية خالصة. ومئة عازف من خيرة الأساتذة، جلسوا متناغمين بالإحساس والعزف، لتقف بينهم نجمة كبيرة، وأستاذة ذات تاريخ ومجد، كما الطفلة تتهجّى أغانيها من جديد، كي لا تأتي إلى من انتظروا صوتها طويلاً، إلا وهي بكامل أناقة الحضور والأداء. عجيب أمر هؤلاء الكبار، لا يعترفوا أبداً بتاريخهم. كل يوم، يبدأ مشوارهم من جديد. ويستعدّون لكل حفل وكأنه الأول. لم تترك جملة إلا وغنتها وأعادتها وتأكّدت أن الفرقة الضخمة، جاهزة، وأن الأساتذة سيكونوا معها أساتذة وأكثر.
ثم وصلنا الى الموعد، حضر لبنان بعقله ولسانه. سياسيون وفنانون وإعلاميون، لبّوا دعوة المملكة العربية السعودية، للحضور وليشهدوا على أن السعودية، تحتفي مرة جديدة بلبنان، وهذه المرّة، بصوت الماجدة. ثم أطلّت ماجدة الرومي، بفستان مذهّب الخيطان، مقصّب التفاصيل، كما فساتين الملكات الحكيمات. هي سبق أن ارتدته في مهرجانت الأرز، في الصيف الذي مضى. وهمست لمن سألها، أنها تعمّدت أن تأتي بفستان ما زالت فيه رائحة أرزات لبنان المعمّرات منذ آلاف السنين، لتنثر عطرها بين جبال وصخور العلا، وهي تصحو بعد غفوة الآلاف من سنين التاريخ.
حاضرة كما السيف، قديرة كما عرفناها دائماً، غنّت ماجدة حليم الرومي أجمل قصائدها وأغانيها. من شعر نزار قبّاني وطلال حيدر، وأنور سلمان وسعاد الصبّاح، ونزار فرنسيس وآخرين. ومن ألحان حليم الرومي وكمال الطويل وملحم بركات وطلال، وإحسان المنذر وجمال سلامه وآخرين. سمعنا طويلاً، وصفّقنا طويلاً، وفرحنا كثيراً. كانت الأغاني تنساب إلينا وكأنها نغمات عشق، متوّجة بصوت كبير. لا أحد سأل كيف يسمع من تصلهم الأغاني عبر أثير بثّ مباشر. كنا نحن نعيش اللحظة، ومتعة الإستماع. وبين قصيدة وأخرى، وبين أغنية وأخرى، وبين نغمة وأخرى، كنّا نتمنّى أن تطول الدقائق، وأن تخرج السيدة عن نظام البرمجة الموضوع، لتعيد وتطيل ونستمتع. رحّبت بالحضور، وحيّت أصحاب الدار، وتمنّت الخير لبلاد كانت دائماً في حياتنا كما بلادنا، وحيّت البيوت اللبنانية التي تقيم في هذه البلاد وكأنها منها. لم تطل ولا زادت، وضعت الندى في مكان السيف، ورمت زهرة سلام على وطن السلام، حيث من هذه الأرض بزغ فجر السلام.
قبل العودة، جاءت وفوداً لتودّعها وتشكرها على حضورها، وفي الطائرة، لم تترك ماجدة الروةمي موسيقياً في الطائرة، إلا وشكرته بالإسم والتحية. ووجهت تحية عرفان لفرقتها وفريق عملها.
أيام قليلة مع السيدة ماجدة الرومي، لم نجد فيها إلا الرقّة، والعذوبة، واللطف، والتواضع، والمحبة …. عادت الى بيروت، وهي تركت عطراً لن تنساه العلا ولا مدائن صالح، ولا “شتاء طنطورة”. على وقع صوتها وأغانيها، ستزهر رمال صحراء العلا، وهياكل الأنباط المنسية، الكثير من الزهور.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى