رأي

أضواء المدينة تنشر مقالاً ثانياً ، بقلم الآنسة أم كلثوم – 2

جمهوري

كتبت الآنسة أم كلثوم

شتان بين ذلك اليوم الذى وقفتُ فيه لأول مرة أغنى فى حفلة عامة فى القاهرة عام 1925 وهذه الأيام.. كنت فى ذلك اليوم أحس أننى أقف أمام لجنة امتحان، وصحيح أننى كنت كالتلميذة التى حفظت دروسها (صم)، ولكن كان هناك دائمًا شعور بالخوف من جمهور المستمعين.. حتى أننى لم أنم فى تلك الليلة بعد أن انتهت الحفلة على خير ما يرام، ولكن على مر الأيام والحفلات صرت أجد لذة كبرى فى الوقوف أمام الجماهير، وانقلب الأمر فأصبحتُ أشعر وكأننى مُدرسة والمستمعين هم التلاميذ، وإننى لأجد متعة طيبة فى أن أراقب الجمهور الذى يستمع إلىّ، وأدرس بعض شخصياته النادرة الطباع، وكأننى أشاهد فيلمًا مسليًا، ومن هؤلاء الذين أتسلى بمراقبتهم فى أثناء حفلاتى الغنائية:

الرومبو:

وهو شخص رقيق جدًا، ما أكاد أبدأ الأغنية حتى يضع يده على خده، ثم يستمع إلى فى شرود عميق، وبين كل مقطع وآخر يرتفع صدره وينخفض فى تنهيدة تعبر عن مبلغ أساه، وأراه سابحًا فى الفكر والتنهيدات، ثم يفيق فجأة حين يسمع تصفيق المستمعين، ليشاركهم التصفيق، وأحيانًا أرى هذا المستمع «الرومبو» جالسًا إلى جانب «جوليت» وعندئذ يضيف إلى ما يفعله بعض النظرات يصوبها إليها بين حين وآخر، ليرى تأثير عبارات الأغنية على وجهها، وأشعر به فى هذه اللحظة كأنما يقول لها: إنت سامعة؟

وما دمت قد تحدثت عن المستمع (الرومبو)، وأتحدث عن نوع آخر من المستمعات وهي:

العاطفية

وهى إنسانة أراها تجلس فى مقعدها قبل أن أبدأ الغناء وقد راحت تصلح من تواليت وجهها، وبعد قليل أجدها وأنا فى عز الأغنية قد أخرجت منديلًا من حقيبتها وراحت تجفف دموعها، وتفرح إذا كانت عبارات الأغنية مفرحة، وفيها لقاء بين الأحبة، وتبكى إذا كانت عباراتها تصف لوعة الهجر وطول الحرمان.. فإذا ما انتهت الوصلة كان وجهها من فرط التقلبات العاطفية فى أشد الحاجة إلى عملية «تواليت» أخرى.

وثمة نوع آخر من المستمعين هو:

العصبي

وهذا المستمع كثيرًا ما يضحكنى بتصرفاته، فهو عادة يكون هادئًا جدًا قبل أن أغني، ثم يَطرب فتهتاج أعصابه ويصيح بين كل مقطع وآخر بكلمات «أعد» و«كمان يا ست»، ولا يكتفى بذلك بل يتنطط على مقعده من فرط النشوة ولا يبدى إعجابه بالتصفيق كغيره، بل يقذف بطربوشه فى الهواء. أذكر أننى لاحظت فى إحدى الحفلات أن هذا المتفرج حضر حاسر الرأس بغير طربوش فقلت فى نفسي: «الحمدلله فلن يكون هناك طرابيش تقفز فى الهواء»، ولكن ما إن أنهيت أحد مقاطع الأغنية، حتى رأيت صاحبنا يختطف طربوش جاره ثم يقذف به فى الهواء! وبمناسبة الحديث عن (العصبي) يجدر بى أن أتحدث كذلك عن مستمع آخر أحب أن أسميه:

البطانة

فهذا المستمع لا يلذ له الاستماع لى إلا وهو يردد معى الأغنية التى أغنيها، ولست أدرى لماذا.. أهو يتدرب على الغناء؟ أم أنه لا يطرب من صوتى وحده؟ وفى بعض الأحيان أجد تسلية لطيفة فى مشاهدة هذا المستمع وهو يتمايل يمينًا وشمالًا وقد تقلصت عضلات وجهه، وبرزت عروق رقبته، وهو يحاول أن يمشى معى فى الغناء، وكثيرًا ما أتوقف أثناء الغناء فجأة قبل أن أتم المقطع لألاحظ ما سيفعله، فأراه عندئذ يلتفت حوله وهو يبتسم، كأنما يدارى خجله عن جيرانه المستمعين، ولا بد أن أتحدث أيضًا عن ذلك المستمع الذى لا أدرى إن كان سخيفًا أم ظريفًا أم الاثنين معًا.. ذلك هو:

المهرج

وأكاد أشك فى أنه يحضر حفلاتى ليستمع إلى غنائى أكثر من رغبته فى أن يثير حوله انتباه الناس، إن هذا المستمع ينفرد بين بقية المستمعين بأسلوبه الغريب فى إبداء الإعجاب، فهو لا يصفق بيديه، بل يأتى معه بقطعة الخشب ليدق بها على الأرض، أو المقعد كلما انتشى طربًا، وهو لا يقول «أعد»، ولا «من الأول يا ست» مثل غيره، بل يطلق (زغرودة) طويلة تثير الضحك فى جنبات المسرح! وهناك الكثير من أنواع المستمعين، الذين يستحقون أن أتحدث عنهم، غير أن الحديث عنهم قد يستغرق صفحات المجلة كلها من هؤلاء يتألف الجمهور الذى يحبنى وأحبه.

مجلة “الكواكب”

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى