رأي

جمال فياض يكتب … جوليا نَهَبَت رُقادي واستراحت !

كتب د. جمال فياض في “زهرة الخليج” …

لم أستطع أن أخرج من حالة النشوة الكبيرة التي تركتها جوليا في مشاعري وجوارحي بعد تلك اللحظات والدقائق القليلة التي سمعتها فيها وهي تغني وتنفعل وتوحي إلينا بأننا ثوار الأرض. لم تكن تلك اللحظات القصيرة جداً، موسيقى وغناء وآلات وتجهيزات صوتية، وديكورات ومسرح كبير. لم تكن تلك اللحظات مجرّد دعوة وغناء بصوت عالٍ ومشاعر إنفعال وحماس. لم تكن جوليا تلك المطربة أو المغنية أو الثائرة على الطغيان والإحتلال والعنف والقتل. هي كانت حالة، هادئة كالطوفان، ناعمة كالبركان، آمنة كالبحر الهائج. ساكنة كصوت الريح العاصف في ليلة من ليالي الأعاصير الغاضبة. هذه الصبية الجميلة التي منذ التقيتها لأول مرة منذ عقدين من الزمن، كانت هي الأمل بأن في حياتنا صوت يصدح ولا بد أن يصل للصمّ الجالسين على قمة أهرام السلطة في لبنان. وما زالت، تقول كلمتها وتمشي، وتترجم ذاك المشاغب الباسم بثورات متضاربة في عقله وقلبه. زياد، الذي يغضب بالموسيقى، فيحدث دوياً يسافر لسنوات ضوئية عبر الزمن، وعبر الفضاءات. من زمان، لم نسمع صوت الشعب يغني. من زمان لم نسمع صوت المغنين كما سمعناه من جوليا. جوليا، صوت العاشقين من مختلف أنواع العشق. عشق حبيبي، وعشق أرض وتراب وناس ووطن وأصدقاء وأحباء وأبناء وأشقاء وزوج. هي صوتي أنا، هي صوتك وصوت وطن. لحن صرخاتها زياد بطرس، كما يشعر بها، لا كما يقتضي الميزان الموسيقي، ومقام النغم. لم تترك جوليا حنجرة من هؤلاء الحاضرين متخاصمين متنافسين ومتناقضين ومختلفنين، إلا وفرضت عليها الصوت والنغمة، ورفع السواعد. بصرخة واحدة، وعلى إيقاع قبضة واحدة وزند واحد… تناسوا أو تجاهلوا كل ما في عقولهم، وكل ما في قلوبهم، وأطلّت عواطفهم من قلب ضمائرهم. وتبيّن أننا كلنا فينا توق للحرية، ورفض المهادنة. لا أحد في تلك الليلة هادن عدواً، ولا سكت على احتلال، ولا وافق على غبن، ولا أخرج تعصّبه المصطنع. سحرتنا جوليا، ولعبت بعواطفنا، فكشفت حقيقتنا. أننا كلنا للوطن، على نفس النهج وعلى نفس الخط. وأننا اخترعنا أكذوبة خلافاتنا، لأننا كنا في سكرٍ عميق، وجاءت هذه الصبية ببراءة وسحر فأيقظتنا من سبات الإدعاءات الفارغة. كلنا لبنان، وكلنا للبنان، وكلنا “… منرفض نحن نموت وقلنا لهم رح نبقى”. ذات يوم، سمعناها تقول فيروز في تلك الأغنية الخالدة “… كل الذين أحبهم، نهبوا رُقادي واستراحوا”… من هنا تتابع جوليا القصيدة والأغنية فإذا هي “تنهب رقادنا وتستريح…”. كانت تلك لحظة فيها ضجيج صاخب بالعزّة والطيبة والتسامح، والثورة والغضب على الطغيان والإحتلال، بدأت رحلتها بالسرعة الضوئية لتصل إلى خارج فضاءات الكواكب التي تعرفها… ومتى تصل؟ لا نعرف متى، المهم أنها انطلقت …

د. جمال فياض – زهرة الخليج

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى